التفاسير

< >
عرض

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
١١٢
لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ
١١٣
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ } أي هدرُ النفسِ والمالِ والأهلِ وذلُّ التمسكِ بالباطل { أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } أي وُجدوا { إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ ٱلنَّاسِ } استثناءٌ من أعم الأحوال أي ضربت عليهم الذلةُ ضربَ القُبةِ على مَنْ هي عليه في جميع الأحوال إلا حالَ كونِهم معتصمين بذمة الله أو كتابِه الذي أتاهم وذمةِ المسلمين أو بذمة الإسلام واتباعِ سبـيلِ المؤمنين { وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ٱللَّهِ } أي رجعوا مستوجبـين له، والتنكيرُ للتفخيم والتهويل ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لغضب مؤكدةً لما أفاده التنكيرُ من الفخامة والهول أي كائنٍ من الله عز وجل { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ } فهي محيطةٌ بهم من جميع جوانبِهم واليهودُ كذلك في غالب الحالِ مساكينُ تحت أيدي المسلمين والنصارى.

{ ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذكر من ضَرْب الذِلةِ والمسكنةِ عليهم والبَوْءِ بالغضب العظيم { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ } أي ذلك الذي ذكر كائنٌ بسبب كفرِهم المستمرِّ بآياتِ الله الناطقةِ بنبوة محمدٍ عليه الصلاة والسلام وتحريفِهم لها وبسائر الآياتِ القرآنية { وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ } أي في اعتقادهم أيضاً، وإسناد القتلِ إليهم مع أنه فعلُ أسلافِهم لرضاهم به كما أن التحريفَ مع كونه من أفعال أحبارِهم يُنسَبُ إلى كل من يسير بسيرتهم { ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذُكر من الكفر والقتل { بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أي كائنٌ بسبب عصيانِهم واعتدائِهم حدودَ الله تعالى على الاستمرار فإن الإصرارَ على الصغائر يُفضي إلى مباشرة الكبائِر والاستمرارَ عليها يؤدي إلى الكفر، وقيل: معناه أن ضربَ الذلةِ والمسكنةِ في الدنيا واستيجابَ الغضبِ في الآخرة كما هو معلَّلٌ بكفرهم وقتلِهم فهو مسبَّبٌ عن عصيانهم واعتدائِهم من حيث إنهم مخاطَبون بالفروع من حيث المؤاخذة { لَيْسُواْ سَوَاء } جملةٌ مستأنفة سيقت تمهيداً لتعداد محاسِن مؤمني أهلِ الكتابِ وتذكيراً لقوله تعالى: { مّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [آل عمران، الآية 110] والضميرُ في ليسوا لأهل الكتاب جميعاً لا للفاسقين منهم خاصة وهو اسمُ ليس وخبرُه سواءً، وإنما أُفرد لأنه في الأصل مصدرٌ والمرادُ بنفي المساواةِ نفيُ المشاركةِ في أصل الاتصافِ بالقبائح المذكورةِ لا نفيُ المساواةِ في مراتب الاتصافِ بها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصافِ بها أي ليس جميعُ أهل الكتابِ متشاركين في الاتصاف بما ذُكر من القبائح والابتلاءِ بما يترتب عليها من العقوبات وقوله تعالى: { مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } استئنافٌ مبـينٌ لكيفية عدمِ تساويهم، ومزيل لما فيه من الإبهام كما أن ما سبق من قوله تعالى: { تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } [آل عمران، الآية 110] الآية، مبـينٌ لقوله تعالى: { { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [آل عمران، الآية 110] الخ، ووضعُ أهلِ الكتابِ موضعَ الضميرِ العائد إليهم لتحقيق ما به الاشتراكُ بـين الفرقين والإيذانِ بأن تلك الأمةَ ممن أوتي نصيباً وافراً من الكتاب لا من أراذلهم. والقائمةُ: المستقيمةُ العادلةُ مِن أقمتُ العودَ فقام بمعنى استقام وهم الذين أسلموا منهم كعبدِ اللَّه بنِ سلام، وثعلبةَ بنِ سعيد وأُسَيْدِ بنِ عبـيد، وأضرابِهم وقيل: هم أربعون رجلاً من أهل نجرانَ واثنان وثلاثون من الحبشة وثلاثةٌ من الروم كانوا على دين عيسى وصدّقوا محمداً عليهما الصلاة والسلام، وكان من الأنصار فيهم عدةٌ قبل قدومِ النبـي عليه السلام منهم أسعدُ بنُ زُرارة، والبراءُ بن معرورٍ، ومحمدُ بنُ مسلمةَ، وأبو قيس صرمةُ بنُ أنسٍ، كانوا موحّدين يغتسلون من الجنابة ويقومون بما يعرِفون من شرائع الحنيفيةِ حتى بعث الله النبـيُّ صلى الله عليه وسلم فصدّقوه ونصَروه. وقوله تعالى: { يَتْلُونَ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ } في محل الرفع على أنه صفةٌ أخرى لأمة، وقيل: في محل النصب على أنه حالٌ منها لتخصُّصها بالنعت، والعاملُ فيه الاستقرارُ الذي يتضمنه الجارُّ أو من ضميرها في { قَائِمَةً } أو من المستكنّ في الجار لوقوعه خبراً لأمة والمرادُ بآياتِ الله القرآنُ، وقوله تعالى: { آناءَ اللَّيْل } ظرفٌ ليتلون أي في ساعاته جمع أَنىً بزنة عصا أو إِنىً بزنة مِعىً، أو أنْي بزنة ظبْـي، أو إنْي بزنة نِحْي، أو إنْو بزنة جِرْو.

{ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } أي يصلّون إذ لا تلاوة في السجود، قال عليه الصلاة والسلام: "ألا إني نُهيت أن أقرأ راكعاً وساجداً" وتخصيصُ السجودِ بالذكر من بـين سائر أركانِ الصلاةِ لكونه أدلَّ على كمال الخضوعِ، والتصريحُ بتلاوتهم آياتِ الله في الصلاة مع أنها مشتملةٌ عليها قطعاً لزيادة تحقيقِ المخالفةِ وتوضيحِ عدمِ المساواةِ بـينهم وبـين الذين وُصفوا آنفاً بالكفر بها وهو السرُّ في تقديم هذا النعتِ على نعت الإيمانِ، والمرادُ بصلاتهم التهجدُ إذ هو أدخلُ في مدحهم وفيه تتسنى لهم التلاوةُ فإنها في المكتوبة وظيفةُ الإمامِ، واعتبارُ حالِهم عند الصلاةِ على الانفراد يأباه مقامُ المدحِ، وهو الأنسبُ بالعدول عن إيرادها باسم الجنسِ المتبادرِ منه الصلاةُ المكتوبة وبالتعبـير عن وقتها بالآناء المُبهمة، وقيل: صلاةُ العِشاءِ لأن أهلَ الكتاب لا يصلّونها، لما رُوي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخّرها ليلةً ثم خرجَ فإذا الناسُ ينتظرون الصلاةَ فقال: "أما إنه ليس من أهل الأديان أحدٌ يذكرُ الله هذه الساعةَ غيرُكم" وقرأ هذه الآية. وإيرادُ الجملةِ اسميةً للدَلالة على الاستمرار، وتكريرُ الإسنادِ لتقوية الحكمِ وتأكيدِه، وصيغةُ المضارعِ للدِلالة على التجدد، والجملةُ حالٌ من فاعل يتلون، وقيل: هي مستأنفةٌ والمعنى أنهم يقومون تارةً ويسجدون أخرى يبتغون الفضلَ والرحمةَ بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله عز وجل كما في قوله تعالى: { { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـٰماً } [الفرقان، الآية 64] وقيل: المرادُ بالسجود هو الخضوعُ كما في قوله تعالى: { { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [الرعد، الآية 15]