التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
١٣٥
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَٱلَّذِينَ } مرفوعٌ على الابتداء، وقيل: مجرورٌ معطوفٌ على ما قبله من صفات المتقين، وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } اعتراضٌ بـينهما مشيرٌ إلى ما بـينهما من التفاوت، فإن درجةَ الأولين من التقوى أعلى من درجة هؤلاءِ وحظِّهم، أو على نفس المتقين فيكونُ التفاوتُ أكثرَ وأظهرَ { إِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً } أي فَعلةً بالغةً في القُبح كالزنا { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } بأن أتَوْا ذنباً أيَّ ذنبٍ كان، وقيل: الفاحشةُ الكبـيرةُ، وظلمُ النفسِ الصغيرة، أو الفاحشةُ ما يتعدّى إلى الغير، وظلمُ النفس ما ليس كذلك. قيل: قال المؤمنون: يا رسولَ الله كانت بنو إسرائيلَ أكرمَ على الله تعالى منا، كان أحدُهم إذا أذنب أصبحت كفارةُ ذنبِه مكتوبةً على عَتَبة دارِه افعلْ كذا فأنزل الله تعالى هذه الآيةَ. وقيل: إن نبهانَ التمار أتتْه امرأةٌ حسناءُ تطلُب منه تمراً فقال لها: هذا التمرُ ليس بجيد وفي البـيت أجودُ منه فذهب بها إلى بـيته فضمّها إلى نفسه وقبّلها فقالت له: اتق الله فتركها وندِم على ذلك وأتى النبـيَّ صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت، وقيل: جرى مثلُ هذا بـين أنصاريُّ وامرأةِ رجلٍ ثقفي كان بـينهما مؤاخاةٌ فندم الأنصاريُّ وحثا على رأسه الترابَ وهام على وجهه وجعل يسيح في الجبال تائباً مستغفِراً ثم أتى النبـي صلى الله عليه وسلم فنزلت. وأياً ما كان فإطلاقُ اللفظِ ينتظم ما فعله الزُناةُ انتظاماً أولياً { ذَكَرُواْ ٱللَّهَ } تذكّروا حقَّه العظيمَ وجلالَه الموجبَ للخشية والحياء أو وعيدَه أو حُكمَه وعقابَه.

{ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } بالتوبة والندمِ، والفاء للدَلالة على أن ذكرَه تعالى مستتبعٌ للاستغفار لا محالة { وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ } استفهامٌ إنكاريٌّ، والمرادُ بالذنوب جنسُها كما في قولك: فلان يلبَس الثيابَ ويركب الخيلَ لا كلُّها حتى يُخِلّ بما هو المقصودُ من استحالة صدورِ مغفرةِ فردٍ منها عن غيره تعالى، وقوله تعالى: { إِلاَّ ٱللَّهُ } بدلٌ من الضمير المستكن في يغفر أي لا يغفرُ جنسَ الذنوبِ أحدٌ إلا الله خلا أن دَلالة الاستفهامِ عن الانتفاء أقوى وأبلغُ لإيذانه بأن كلَّ أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب يعرِف ذلك الانتفاءَ فيسارع إلى الجواب به، والمرادُ به وصفُه سبحانه بغاية سَعةِ الرحمةِ وعمومِ المغفرةِ، والجملةُ معترضةٌ بـين المعطوفين أو بـين الحالِ وصاحبِها لتقرير الاستغفارِ والحث عليه والإشعارِ بالوعد بالقَبول { وَلَمْ يُصِرُّواْ } عطفٌ على فاستغفروا، وتأخيرُه عنه مع تقدم عدمِ الإصرار على الاستغفار رتبةً لإظهار الاعتناءِ بشأن الاستغفارِ واستحقاقِه للمسارعة إليه عَقيبَ ذكرِه تعالى أو حال من فاعله ولم يُقيموا أو غيرَ مقيمين { عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ } أي ما فعلوه من الذنوب فاحشةً كانت أو ظلماً أو على فعلهم. روي عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرةً" وأنه لا كبـيرةَ مع الاستغفار ولا صغيرةَ مع الإصرار { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } حال من فاعل يُصِروا أي لم يُصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقُبحه والنهيِ عنه والوعيدِ عليه. والتقيـيدُ بذلك لما أنه قد يُعذر من لا يعلم ذلك إذا لم يكن التقصيرُ في تحصيل العلم به.