التفاسير

< >
عرض

رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ
٥٣
وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٥٤
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ } تضرّعٌ إلى الله عز وجل وعرْضٌ لحالهم عليه تعالى بعد عرضِها على الرسول مبالغةً في إظهار أمرِهم { وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ } أي في كل ما يأتي ويذرُ من أمور الدينِ فيدخُل فيه الاتّباعُ في النُّصرة دخولاً أولياً { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } أي مع الذين يشهدون بوحدانيتك أو مع الأنبـياء الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام فإنهم شهداءُ على الناس قاطبةً، وهو حالٌ من مفعول اكتبنا.

{ وَمَكَرُواْ } أي الذين علِمَ عيسى عليه الصلاة والسلام كفرَهم من اليهود بأن وكلّوا به من يقتُله غِيلةً { وَمَكَرَ ٱللَّهُ } بأن رفعَ عيسى عليه الصلاة والسلام وألقىٰ شَبَهَه على من قصد اغتيالَه حتى قُتل، والمكرُ من حيث أنه في الأصل حيلةٌ يُجلَب بها غيرُه إلى مَضرّة لا يمكن إسنادُه إليه سبحانه إلا بطريق المشاكلة، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ملِكَ بني إسرائيلَ لما تصد قتلَه عليه الصلاة والسلام أمره جبريلُ عليه الصلاة والسلام أن يدخُلَ بـيتاً فيه روزنة فرفعه جبريل من تلك الروزنة إلى السماء فقال الملكُ لرجل خبـيثٍ منهم: أدخُل عليه فاقتُله فدخل البـيت، فألقى الله عز وجل شَبَهَه عليه فخرج يُخبرهم أنه ليس في البـيت فقتلوه وصلبوه وقيل إنه عليه الصلاة والسلام جمع الحواريـين ليلةً وأوصاهم ثم قال: «لَيَكفرَنّ بـي أحدُكم قبل أن يَصيح الديكُ ويَبـيعَني بدراهِمَ يسيرة» فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهودُ تطلُبه فنافق أحدُهم فقال لهم: ما تجعلون لي إن دَلَلْتُكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه فألقى الله عز وجل عليه شبهَ عيسى عليه الصلاة والسلام ورفعه إلى السماء فأخذوا المنافِقَ وهو يقول: أنا دليلُكم فلم يلتفتوا إلى قوله وصَلَبوه ثم قالوا: وجهُه يُشبه وجهَ عيسى وبَدَنُه يشبه بدنَ صاحبِنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبُنا وإن كان صاحِبَنا فأين عيسى؟ فوقع بـينهم قتالٌ عظيم وقيل: لما صُلب المصلوب جاءت مريمُ ومعها امرأةٌ أبرأها الله تعالى من الجنون بدعاء عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلتا تبكِيان على المصلوب فأنزل الله تعالى عيسى عليه الصلاة والسلام فجاءهما فقال: علام تبكيان؟ فقالتا: عليك فقال: إن الله تعالى رفعني ولم يُصِبني إلا خيرٌ وإن هذا شيءٌ شُبِّه لهم. قال محمد بنُ إسحاقَ: إن اليهودَ عذبوا الحواريـين بعد رفعِ عيسى عليه الصلاة والسلام ولقُوا منهم الجَهْدَ فبلغ ذلك ملكَ الرومِ وكان ملكُ اليهود من رعيته فقيل له: إن رجلاً من بني إسرائيلَ ممن تحت أمرِك كان يخبرهم أنه رسولُ الله وأراهم إحياءَ الموتى وإبراءَ الأكمهِ والأبرص وفعل وفعل فقال: لو علِمْتُ ذلك ما خلَّيْتُ بـينهم وبـينه ثم بعث إلى الحواريـين فانتزعهم من أيديهم، وسألهم عن عيسى عليه الصلاة والسلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوبَ فغيّبه وأخذ الخشبةَ فأكرمها ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصلُ النصرانيةِ في الروم ثم جاء بعده ملِكٌ آخرُ يقال له: تيتوس وغزا بـيتَ المقدس بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام بنحوٍ من أربعين سنةً فقتلَ وسبَى ولم يترُكْ في مدينة بـيتِ المقدسِ حجراً على حجر، فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز.

قال أهلُ التواريخ: حملت مريم بعيسى عليه الصلاة والسلام وهي بنتُ ثلاثَ عشرةَ سنةً وولدته ببـيتَ لَحْمَ من أرض «أورى شلم» لمُضيِّ خمسٍ وستين سنةً من غلبة الإسكندرِ على أرض بابلَ، وأوحى الله تعالى إليه على رأس ثلاثينَ سنةً ورفعه إليه من بـيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سنةً وعاشت أمُه بعد رفعِه ستَّ سنين { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } أقواهم مكراً وأنفذُهم كيداً وأقدرُهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب، وإظهارُ الجلالة في موقع الإضمارَ لتربـية المهابة، والجملةُ تذيـيلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله.