التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ
٨
-الروم

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } إنكارٌ واستقباحٌ لِقصَرِ نظرِهم على ما ذُكر من ظاهرِ الحياةِ الدُّنيا مع الغفلةِ عن الآخرةِ. والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيِه المقامُ. وقولُه تعالى: { فِى أَنفُسِهِمْ } ظرفٌ للتفكُّرِ وذكرُه مع ظهورِ استحالةِ كونِه في غيرِها لتحقيق أمرهِ وتصويرِ حالِ المتفكِّرينِ. وقولُه تعالى: { مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } الخ متعلقٌ إمَّا بالعلمِ الذي يؤدِّي إليه التَّفكُّر ويدلُّ عليهِ أو بالقولِ الذي بترتَّبُ عليه كما في قولِه تعالى: { { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً } [سورة آل عمران: الآية 191] أي أعلمُوا ظاهرَ الحياةِ الدُّنيا فقط أو أقصَروا النَّظرَ عليه ولم يُحدِثُوا التفكُّرَ في قلوبِهم فيعلمُوا أنَّه تعالى ما خلقَهما وما بـينهما من المخلُوقاتِ التي هُم من جُملتها ملتبسةً بشيءٍ من الأشياءِ { إِلا } ملتبسةً { بِٱلْحَقّ } أي يقولُوا هذا القولَ مُعترفين بمضمونِه إثرَ ما علمُوه. والمرادُ بالحقِّ هوالثابتُ الذي يحقُّ أنْ يثبتَ لا محالةَ لا بتنائِه على الحكمةِ البالغةِ والغرضِ الصَّحيحِ الذي هو استشهادُ المكلَّفين بذواتِها وصفاتِها وأحوالِها المتغيرةِ على وجودِ صانعِها عزَّ وجلَّ ووحدتِه وعلمِه وقدرتِه وحكمتِه واختصاصِه بالمعبُوديَّةِ وصحَّةِ أخبارِه التي مِن جُملتِها إحياؤهم بعد الفناءِ بالحياةِ الأبديَّةِ ومجازاتِهم بحسبِ أعمالِهم غبَّ ما تبـيَّن المحسنُ من المسيء وامتازتْ درجاتُ أفرادِ كلَ من الفريقينِ حسبَ امتيازِ طبقاتِ علومِهم واعتقاداتِهم المترتبةِ على أنظارِهم فيما نُصبَ في المصنُوعاتِ من الآياتِ والدَّلائلِ والأماراتِ والمخائلِ كما نطقَ به قولُه تعالى: { { وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [سورة هود: الآية 7] فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعملِ الجوارحِ ولذلك فسَّره عليه الصَّلاة والسَّلام بقولِه: "أيكم أحسنُ عقلاً وأورعُ عن محارمِ الله وأسرعُ في طاعةِ الله" وقد مرَّ تحقيقُه في أوائلِ سورةِ هُودٍ عليه السَّلام. وقولُه تعالى: { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } عطفٌ على الحقِّ أي وبأجلٍ معينٍ قدرَه الله تعالى لبقائِها لا بدَّ لها مِن أنْ تنتهيَ إليه لا محالةَ وهو وقتُ قيامِ السَّاعةِ. هذا وقد جُوِّز أنْ يكونَ قولُه تعالى: في أنفسِهم صلةً للتفكُّرِ على معنى أَوَلَم يتفكرُوا في أنفسِهم التي هي أقربُ المخلوقاتِ إليهم وهُم أعلمُ بشؤونِها وأخبرُ بأحوالِها منهم بأحوالِ ما عداها فيتدبَّروا ما أودَعها الله تعالى ظاهراً وباطناً من غرائبِ الحكمِ الدَّالَّةِ على التَّدبـيرِ دونَ الإهمالِ وأنَّه لا بدَّ لها من انتهاءٍ إلى وقتٍ يُجازيها فيه الحكيم الذي دبَّر أمرَها على الإحسانِ إحساناً وعلى الإساءةِ مثلَها حتَّى يعلموا عند ذلك أنَّ سائرَ الخلائقِ كذلك أمرُها جارٍ على الحكمةِ والتَّدبـيرِ وأنَّه لا بدَّ لها من الانتهاءِ إلى ذلك الوقتِ. وأنتَ خبـيرٌ بأنَّ أمرَ معادِ الإنسانِ ومُجازاتِه بما عملَ من الإساءةِ والإحسانِ هو المقصودُ بالذَّاتِ والمحتاجُ إلى الإثباتِ فجعلُه ذريعةً إلى إثباتِ معادِ ما عَداهُ مع كونِه بمعزلٍ من الجزاءِ تعكيسٌ للأمة فتدبَّر. وقولُه تعالى: { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَاء رَبّهِمْ لَكَـٰفِرُونَ } تذيـيلٌ مقررٌ لما قبله ببـيانِ أن أكثرَهم غيرُ مقتصرين على ما ذُكر من الغفلةِ عن أحوالِ الآخرةِ والإعراضِ عن التَّفكُّرِ فيما يُرشدهم إلى معرفتِها من خلقِ السَّمواتِ والأرضِ وما بـينهما من المصنُوعاتِ بل هم مُنكرون جاحدون بلقاءِ حسابِه تعالى وجزائِه بالبعثِ.