التفاسير

< >
عرض

فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٤
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
١٥
تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
١٦
-السجدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

والفاء في قوله تعالى { فَذُوقُواْ } لترتيبِ الأمرِ بالذَّوق على ما يُعرب عنه ما قبله من نفيِ الرَّجعِ إلى الدُّنيا أو على الوعيدِ المحكيِّ والباء في قوله تعالى: { بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } للإيذانِ بأنَّ تعذيبَهم ليس لمجردِ سبقِ الوعيدِ به فقط بل هو وسبقُ الوعيدِ أيضاً بسببٍ موجبٍ له من قِبَلهم، كأنَّه قيل: لا رجعَ لكم إلى الدُّنيا أو حقَّ وعيدي فذوقُوا بسببِ نسيانِكم لقاءَ هذا اليومِ الهائلِ وتركِكم التفكُّرَ فيهِ والاستعدادَ له بالكُلِّيةِ { إِنَّا نَسِينَـٰكُمْ } أي تركناكُم في العذابِ تركَ المنسيِّ بالمرَّةِ وقولُه تعالى: { وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } تكريرٌ للتَّأكيدِ والتَّشديدِ وتعيـينُ المفعولِ المطويِّ للذوقِ والإشعارِ بأنَّ سببَه ليس مجرَّد ما ذُكر من النِّسيانِ بل له أسبابٌ أخرُ من فنونِ الكفرِ والمَعاصي التي كانُوا مستمرِّين عليها في الدُّنيا، وعدمُ نظمِ الكلِّ في سلكٍ واحدٍ للتنبـيهِ على استقلالِ كلَ منها في استيجابِ العذابِ. وفي إبهامِ المذوقِ أولاً وبـيانِه ثانياً بتكريرِ الأمرِ وتوسيطِ الاستئنافِ المنبىءِ عن كمالِ السُّخطِ بـينهما من الدِّلالةِ على غاية التَّشديدِ في الانتقامِ منهم ما لا يَخْفى وقوله تعالى: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِـئَايَـٰتِنَا } استئنافٌ مسوقٌ لتقريرِ عدمِ استحقاقِهم لإيتاءِ الهُدى والإشعارِ بعدمِ إيمانِهم لو أُوتوه بتعيـينِ مَن يستحقُّه بطريقِ القصرِ كأنَّه قيل: إنَّكم لا تُؤمنون بآياتِنا ولا تعملون بموجبِها عملاً صالحاً ولو رَجَعناكم إلى الدُّنيا كما تدَّعون حسبما ينطقُ به قولُه تعالى: { { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [سورة الأنعام: الآية 28] وإنَّما يُؤمن بها { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا } أي وُعِظوا { خَرُّواْ سُجَّداً } آثر ذي أثيرٍ من غيرِ تردُّدٍ ولا تلعثمٍ فضلاً عن التَّسويفِ إلى معاينةِ ما نطقتْ به من الوعدِ والوعيدِ أي سقطُوا على وجوهِهم { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } أي ونزَّهُوه عند ذلك عن كلِّ ما لا يليقُ به من الأمورِ التي من جُملتها العجزُ عن البعثِ ملتبسين بحمدِه تعالى على نعمائِه التي أجلُّها الهدايةُ بإيتاءِ الآياتِ والتَّوفيقِ للاهتداءِ بها، والتعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبـيةِ بطريقِ الالتفاتِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم للإشعارِ بعلَّةِ التَّسبـيحِ والتَّحميدِ وبأنَّهم يفعلونهما بملاحظةِ ربوبـيتِه تعالى لهم { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي والحالُ أنَّهم خاضعون له تعالى لا يستكبرون عمَّا فعلُوا من الخُرور والتَّسبـيحِ والتَّحميدِ { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ } أي تنبُو وتنْحَى { عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } أي الفُرشِ ومواضعِ المنامِ. والجملةُ مستأنفةٌ لبـيانِ بقيةِ محاسنِهم وهم المُتهجِّدونَ بالليلِ. قال أنسٌ رضي الله عنه: نزلتْ فينا معاشرَ الأنصارِ كنَّا نصلِّي المغربَ فلا نرجعُ إلى رحالِنا حتى نصلِّي العشاءَ مع النبـيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وعن أنسٍ أيضاً رضي الله عنه أنَّه قال: نزلتْ في أناسٍ من أصحابِ النبـيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كانوا يصلُّون من صلاةِ المغربِ إلى صلاةِ العشاءِ وهي صلاةُ الأوَّابـينَ وهو قولُ أبـي حازمٍ ومحمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ، وهو مرويٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. وقال عطاءٌ: هم الذين لا ينامُون حتَّى يصلُّوا العشاءَ الآخرةَ والفجرَ في جماعةٍ. والمشهورُ أنَّ المرادَ منه صلاةُ اللَّيلِ وهو قولُ الحسنِ ومجاهدٍ ومالكٍ والأوزاعيِّ وجماعةٍ، لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "أفضلُ الصِّيامِ بعد شهرِ رمضانَ شهرُ الله المحرَّمُ وأفضلُ الصَّلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ اللَّيلِ" وعن النبـيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في تفسيرِها: "قيامُ العبدِ من الليلِ" وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إذا جمعَ الله الأوَّلينَ والآخرينَ جاء منادٍ ينادي بصوتٍ يُسمع الخلائقَ كلَّهم سيعلم أهلُ الجمعِ اليَّومَ من أولى بالكرمِ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانتْ تتجَافى جنوبُهم عن المضاجعِ فيقومونَ وهُم قليلٌ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانُوا يحمدون الله في السرَّاءِ والضَّراءِ فيقومون وهُم قليلٌ فيسرَّحُون جميعاً إلى الجنَّةِ، ثم يُحاسَب سائرُ النَّاسِ" . وقولُه تعالى: { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } حالٌ من ضميرِ جنوبُهم أي داعينَ له تعالى على الاستمرارِ { خَوْفًا } من سخطِه وعذابِه وعدمِ قبولِ عبادتِه { وَطَمَعًا } في رحمتِه { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ } من المالِ { يُنفِقُونَ } في وجوهِ البرِّ والحسناتِ.