التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
١٥
فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ
١٦
-سبأ

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } بـيان لإخبار بعض الكافرين بنعم الله تعالى إثرَ بـيانِ أحوال الشَّاكرينَ لها أي لأولاد سبأِ بن يشجبَ بنِ يعربَ بنِ قحطان وقُرىء بمنع الصَّرفِ على أنه اسمُ القبـيلةِ. وقُرىء بقلب الهمزةِ ألفاً ولعله إخراجٌ لها بـينَ بـينَ { فِى مَسْكَنِهِمْ } وقُرىء بكسرِ الكافِ كالمسجِدِ، وقُرىء بلفظ الجمعِ أي مواضع سُكناهم وهي باليمنِ يقال لها مَأْرِبُ بـينها وبـين صنعاءَ مسيرةُ ثلاثِ ليالٍ { ءايَةً } دالَّة بملاحظه أحوالِها السَّابقةِ واللاَّحقةِ على وجود الصَّانعِ المُختار القادر على كلِّ ما يشاءُ من الأمور البديعة المُجازي للمحسنِ والمسيءِ معاضدةً للبرهان السَّابقِ كما في قصتي داودَ وسليمانَ عليهما السَّلامُ. { جَنَّتَانِ } بدل من آيةً أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هي جنتان وفيه معنى المدح ويُؤيِّدُه قراءةُ النَّصبِ على المدح والمرادُ بهما جماعتانِ من البساتين. { عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } جماعةٌ عن يمينِ بلدِهم وجماعةٌ عن شمالِه كلُّ واحدةٍ من تَيْنكَ الجماعتينِ في تقاربِهما وتضامِّهما كأنَّهما جنَّةٌ واحدةٌ أو بستاناً كلُّ رجلٍ منهم عن يمين مسكنِه وعن شمالِه { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ } حكاية لما قيل لهم على لسان نبـيِّهم تكميلاً للنِّعمةِ وتذكيراً لحقوقِها أو لما نطق به لسانُ الحالِ أو بـيان لكونهم أحقَّاءَ بأنْ يقالَ لهم ذلك { بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } استئنافٌ مبـيِّن لما يوجب الشُّكرَ المأمور به أي بلدتُكم بلدةٌ طيبةٌ وربُّكم الذي زرقكم ما فيها من الطَّيباتِ وطلب منكم الشُّكرَ ربٌّ غفورٌ لفرطات مَن يشكره. وقُرىء الكلُّ بالنَّصبِ على المدح قيل: كان أطيبَ البلاد هواء وأخصبها وكانتِ المرأةُ تخرج وعلى رأسها المِكْتلُ فتعمل بـيديها وتسير فيما بـين الأشجار فيمتلىءُ المِكْتَلُ مما يتساقطُ فيه من الثِّمارِ ولم يكن فيه من مؤذياتِ الهُوامِّ شيء { فَأَعْرِضُواْ } عن الشُّكر بعد إبانة الآيات الدَّاعيةِ لهم إليه قيل: أرسل الله إليهم ثلاثةَ عشرَ نبَّـياً فدَعوهم إلى الله تعالى وذكَّروهم بنعمه وأنذروهم عقابه فكذَّبوهم.

{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ } أي سيلَ الأمر العرم أي الصَّعبِ من عَرِمَ الرَّجلُ فهو عارمٌ وعَرِمٌ إذا شرس خلقُه وصعب أو المطر الشَّديدُ وقيل: العرم جمعُ عُرمةٍ وهي الحجارة المركومة وقيل: هو السكر الذي يحبس الماء وقيل: هو اسمٌ للبناءِ يُجعلُ سدَّاً وقيل هو البناء الرَّصينُ الذي بنته الملكةُ بلقيسُ بـين الجبلينِ بالصَّخرِ والقارِ وحقنت به ماء العُيون والأمطاء وتركت فيه خُرُوقاً على ما يحتاجون إليه في سقيهم. وقيل العرمُ الجُرَذُ الذي نَقَبَ عليهم ذلك السدَّ وهو الفأرُ الأعمى الذي يقال له الخُلْدُ سلَّطه الله تعالى على سدِّهم فنقَبه فغرَّق بلادَهم، وقيل: العَرِمُ اسم الوادي. وقُرىء العَرْم بسكون الرَّاءِ قالوا كان ذلك في الفترة التي كانت بـين عيسى والنَّبـيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ } أي أذهبنا جنَّتيهم وآتيناهم بدلهما { جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ } أي ثمرٍ بشعٍ فإنَّ الخَمْطَ كل نبت أخذ طعماً من مرارة حتَّى لا يمكن أكلُه وقيل: هو الحامضُ والمرُّ من كلِّ شيء. وقيل: هو ثمرةُ شجرةٍ يقال لها فَسْوةُ الضبع على صورة الخَشْخَاشِ لا يُنتفع بها. وقيل هو الأَرَاكُ أو كلُّ شجرٍ ذي شوكٍ. والتَّقديرُ أُكُلٍ أُكُلِ خمطٍ فخُذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامَه. وقُرىء أُكْلِ خمطٍ بالإضافة بتخفيفِ أكل. { وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } معطوفان على أُكلٍ لا على خَمْطٍ فإن الأَثْلَ هو الطَّرفاءُ وقيل شجرٌ يُشبهه أعظم منه لا ثمرَ له وقُرىء وأَثْلاً وشيئاً عطفاً على جنَّتين. قيل: وصف السِّدْرُ بالقلَّةِ لما أنَّ جناهُ وهو النَّبقُ مَّما يطيبُ أكلُه ولذلك يغرس في البساتينِ والصَّحيح أنَّ السِّدْرِ صنفانِ صنفٌ يُؤكلُ من ثمره ويُنتفع بورقه لغسلِ اليد وصنف له ثمرة عَفْصةٌ لا تُؤكل أصلاً ولا يُنتفع بورقهِ وهو الضَّالُ والمرادُ ههنا هو الثَّاني حتماً. وقال قَتادةُ: كان شجرُهم خيرَ الشَّجرِ فصيَّرُه الله تعالى من شرِّ الشَّجرِ بأعمالِهم. وتسميةُ البدلِ جنَّتين للمشاكلةِ والتَّهكُّمِ.