التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
-فاطر

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

(سورة فاطر مكية وهى خمس وأربعون آية)

{ بِسْمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمَنِ ٱلرَّحِيم } { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } مبدِعهما من غير مثالٍ يحتذيِه ولا قانونٍ ينتحيهِ. من الفَطرِ وهو الشَّقُّ وقيل الشَّقُّ طولاً كأنَّه شقَّ العدمَ بإخراجِهما منه وإضافته محضة لأنَّه بمعنى الماضي فهو نعتٌ للاسمِ الجليلِ ومن جعلها غيرَ محضةٍ جعله بدلاً منه وهو قليلٌ في المشتقِّ. { جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ } الكلامُ في إضافتِه وكونِه نعتاً أو بدلاً كما قبلَه وقوله تعالى: { رُسُلاً } منصوبٌ به على الوجهِ الثَّانِي من الإضافة بالاتِّفاقِ وأمَّا على الوجهِ الأوَّلِ فكذلك عند الكِسائِّي وأمَّا عند البصريـينَ فبمضمرٍ يدلُّ هو عليه لأنَّ اسمَ الفاعلِ إذا كان بمعنى الماضي لا يعملُ عندهم إلا معرَّفاً باللام وقال أبو سعيدٍ السِّيرافيُّ: اسم الفاعلِ المتعدِّي إلى اثنينِ يعملُ في الثَّانِي لإنَّ بإضافتَه إلى الأوَّلِ تعذرتْ إضافتُه إلى الثَّانِي فتعيِّن نصبُه له وعلل بعضُهم ذلك بأنَّه بالإضافة أشبه المعرَّفِ باللامِ فعمِل عملَه. وقُرىء جاعلُ بالرَّفعِ على المدح وقُرىء { ٱلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ } أي جاعلهم وسائطَ بـينه تعالى وبـين أنبـيائه والصَّالحينَ من عبادِه يبلِّغون إليهم رسالاتِه بالوحيِ والإلهامِ والرُّؤيا الصَّادقةِ أو بـينه تعالى وبـين خلقِه أيضاً حيثُ يوصِّلون إليهم آثارَ قدرتِه وصنعِه هذا على تقديرِ كونِ الجعلِ تصيـيريَّاً أمَّا على تقديرِ كونِه إبداعيَّاً فرُسلاً نُصب على الحاليَّةِ وقُرىء رُسْلاً بسكونِ السِّينِ { أُوْلِى أَجْنِحَةٍ } صفةً لرُسلاً وأولو اسمُ جمعٍ لذُو كما أنَّ أُولاء اسمُ جمعٍ لذا. ونظيرُهما في الأسماءِ المتمكِّنة المخاضُ والخلفةُ وقوله تعالى:

{ مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَاعَ } صفاتٌ لأجنحة أي ذَوي أجنجةٍ متعدِّدةٍ مُتفاوتةٍ في العدد حسب تفاوتِ ما لَهُم من المراتب ينزلون بها ويعرجُون أو يسرعون بها والمعنى أنَّ من الملائكة خَلْقاً لكلِّ واحد منهم جناحانِ وخَلْقاً لكلِّ واحد منهم ثلاثة وخَلْقاً آخر لكلِّ منهم أربعة أجنحة. ويُروى أنَّ صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة بجناحين منها يُلقون أجسادَهم وبآخرينِ منها يطيرون فيما أُمروا به من جهتِه تعالى وجناحانِ منها مرخيَّانِ على وجوههم حياءً من الله عزَّ وجلَّ "وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه رأى جبريلَ عليه السَّلامُ ليلةَ المعراجِ وله ستمائةُ جناح" ورُوي "أنَّه سألَه عليهما السَّلامُ أنْ يترآى له في صورتِه فقال إنَّك لن تطيقَ ذلك قال إنِّي أحبُّ أنْ تفعلَ فخرج عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في ليلةٍ مُقمرةٍ فأتاهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ في صورتِه فغُشي عليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ثمَّ أفاقَ وجيريلُ مسندُهُ وإحدى يديِه على صدرِه والأخرى بـين كتفيِه فقال: سبحانَ الله ما كنتُ أرى أنَّ شيئاً من الخلقِ هكذا فقال جبريل عليه السَّلامُ فكيف لو رأيتَ إسرافيلَ له اثنا عشرَ جناحاً جناحٌ منها بالمشرقِ وجناحٌ منها بالمغربِ وإنَّ العرشَ على كاهلِه وإنَّه ليتضاءلُ الأحايـينَ لعظمةِ الله عزَّ وجلَّ حتَّى يعودَ مثلَ الوَصَعِ وهو العصفورُ الصَّغيرُ"
). { يَزِيدُ فِى ٱلْخَلْقِ مَا يَشَاء } استئنافٌ مقررٌ لما قبله من تفاوتِ أحوالِ الملائكةِ في عددِ الأجنحةِ ومؤذنٌ بأنَّ ذلك من أحكام مشيئتِه تعالى لا لأمرٍ راجعٍ إلى ذَواتهم ببـيان حكم كلِّي ناطق بأنَّه تعالى يزيدُ في أيِّ خلقٍ كان كلِّ ما يشاءُ أنْ يزيدَه بموجبِ مشيئتِه ومُقتضى حكمتِه من الأمورِ التي لا يحيطُ بها الوصفُ وما رُوي عن النبـي عليه الصَّلاةُ والسلامُ من تخصيص بعض المعاني بالذِّكرِ من الوجهِ الحسنِ والصَّوتِ الحسنِ والشَّعرِ الحسنِ فبـيانٌ لبعضِ الموادِّ المعهودةِ بطريقِ التَّمثيلِ لا بطريقِ الحصرِ فيها. وقولُه تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } تعليلٌ بطريقِ التَّحقيق للحُكمِ المذكورِ فإنَّ شمولَ قُدرته تعالى لجميعِ الأشياءِ ممَّا يوجبُ قدرتَه تعالى على أنَّ يزيدَ كلَّ ما يشاؤه إيجاباً بـيِّناً.