التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ
٩
مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
١٠
-فاطر

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَٱللَّهُ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَاحَ } مبتدأٌ وخبرٌ. وقُرىء الرِّيحَ وصيغتُه المضارعِ في قوله تعالى: { فَتُثِيرُ سَحَـٰباً } لحكايةِ الحالِ الماضيةِ استحضاراً لتلكَ الصُّورةِ البديعةِ الدَّالَّةِ على كمال القدرةِ والحكمةِ ولأنَّ المرادَ بـيانُ إحداثِها لتلك الخاصَّيةِ ولذلك أُسند إليها أو للدِّلالةِ على استمرارِ الإثارةِ { فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيّتٍ } وقُرىء بالتَّخفيفِ { فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ } أي بالمطرِ النَّازلِ منه المدلولِ عليه بالسَّحابِ فإنَّ بـينهما تلازماً في الذِّهنِ كما في الخارجِ أو بالسَّحابِ فإنَّه سببُ السَّببِ { بَعْدَ مَوْتِهَا } أي يُبسها. وإيرادُ الفعلينِ على صيغةِ الماضِي للدِّلالةِ على التَّحقيقِ. وإسنادُها إلى نونِ العظمةِ المنبـيءِ عن اختصاصِهما به تعالى لما فيهما من مزيدِ الصُّنعِ ولتكميل المُماثلةِ بـين إحياءِ الأرضِ وبـين البعثِ الذي شُبِّه به بقوله تعالى: { كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ } في كمال الاختصاصِ بالقُدرةِ الرَّبانيةِ. والكافُ في حيِّزِ الرَّفعِ على الخبرية أي مثلَ ذلك الإحياءِ الذي تشاهدونَه إحياءٌ الأمواتِ في صحَّة المقدوريَّةِ وسهولةِ التأتِّي من غيرِ تفاوتٍ بـينهما أصلاً سوى الألفِ في الأوَّلِ دُونَ الثَّانِي وقيل في كيفيَّةِ الإحياءِ يُرسل الله تعالى من تحت العرشِ ماءً فينبتُ منه أجسادُ الخلقِ { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ } هم المشركونَ الذينَ كانُوا يتعزَّزون بعبادةِ الأصنامِ كقولِه تعالى: { { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [سورة مريم: الآية 81] والذين كانوا يتعزَّزون بهم من الذينَ آمنُوا بألسنتِهم كما في قوله تعالى: { { ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ } [سورة النساء: الآية 139] والجمعُ بـين كانَ ويريدُ للدِّلالةِ على دَوام الإرادةِ واستمرارِها.

{ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } أي له تعالى وحَدهُ لا لغيرِه عزَّةُ الدُّنيا وعزَّةُ الآخرةِ أي فليطلبها منْهُ لا من غيرِه فاستُغني عن ذكرِه بذكرِ دليلِه إيذاناً بأنَّ اختصاصَ العزَّةِ تعالى موجبٌ لتخصيصِ طلبها به تعالى. وقوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرْفَعُهُ } بـيان لما يُطلب به العزَّةُ وهو التَّوحيدُ والعملُ الصَّالحُ. وصعودُهما إليه مجازٌ عن قبولِه تعالى إيَّاهُما أو صعودُ الكَتَبةِ بصحيفتهما. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عبارةٌ عن كمالِ الاعتدادِ به كقولِه تعالى: { { وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَـٰتِ } [سورة التوبة: الآية 104] أي إليه يصلُ الكلمُ الطَّيبُ الذي به يُطلب العزَّةَ لا إلى الملائكةِ الموكَّلين بأعمال العبادِ فَقطَ وهو يعزُّ صاحَبهُ ويُعطي طِلْبتَه بالذَّاتِ. والمستكّنُّ في يرفعه للكلم فإنَّ مدارَ قبولِ العملِ هو التَّوحيدُ ويُؤيده القراءةُ بنصبِ العملِ أو للعملِ فإنَّه يحققُ الإيمانَ ويقويه ولا يُنال الدَّرجاتُ العاليةُ إلا به. وقُرىء يُصعد من الإصعادِ على البناءين والمُصعدُ هو الله سبحانَه أو المتكلِّم به أو الملكُ وقيل الكلمُ الطَّيبُ يتناول الذِّكرَ والدُّعاءَ والاستغفارَ وقراءةَ القُرآن. وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه سبحانَ الله والحمدُ لله ولا إلَه إلا الله والله أكبرُ إذَا قالَها العبدُ عرجَ بها الملكُ إلى السَّماءِ فحيا بها وجَه الرَّحمٰن فإذا لم يكُن عملٌ صالحٌ لم تُقبل، وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه "ما من عبدٍ مسلمٍ يقولُ خمسَ كلماتٍ سبحان الله والحمدُ لله ولا إلَه إلاَّ الله والله أكبرُ وتبارك الله إلا أخذهنَّ ملكٌ فجعلهنَّ تحتَ جناحِه ثم صعدَ بهنَّ فما يمرُّ بهنَّ على جمعٍ من الملائكةِ إلا استغفرُوا لقائلهنَّ حتَّى يحيـى بهنَّ وجَه ربِّ العالمين" ومصداقُه قوله عزَّ وجلَّ { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيّبُ } الخ.

{ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيّئَاتِ } بـيانٌ لحال الكَلِمِ الخَبـيثِ والعملِ السَّيِّـىء وأهلِهما بعد بـيانِ حالِ الكَلمِ الطَّيبِ والعملِ الصَّالحِ. وانتِّصابُ السَّيئاتِ على أنَّها صفةٌ للمصدرِ المحذوفِ أي يمكرون المكَرَاتِ السَّيئاتِ وهي مكَراتُ قُريشٍ بالنبـيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في دارِ النَّدوةِ وتداورِهم الرَّأيِ في إحدى الثَّلاثِ التي هي الإثباتُ والقتلُ والإخراجُ { لَهُمْ } بسببَ مكراتِهم { عَذَابٌ شَدِيدٌ } لا يُقادرُ قَدرُه ولا يُؤبه عندَهُ لمَا يمكرونَ { وَمَكْرُ أُوْلَـئِكَ } وضعَ اسمُ الإشارةِ موضعَ ضميرِهم للإيذانِ بكمالِ تميُّزهم بما هُم فيه من الشَّرِّ والفسادِ عن سائرِ المُفسدينَ واشتهارِهم بذلك. وما فيه من معنى البُعد للتنبـيه على تَرامي أمرهِم في الطُّغيانِ وبُعد منزلِتهم في العُدوانِ. أي ومكرُ أولئكَ المُفسدين الذينَ أرادُوا أنْ يمكرُوا به عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ { هُوَ يَبُورُ } أي هو يهلكُ ويفسدُ خاصَّةً لا مَن مكرُوا بهِ ولقد أبارَهُم الله تعالى بعد إبارةِ مكراتِهم حيثُ أخرجَهم من مكَّةَ وقتلَهم وأثبتَهم في قَليبِ بدرٍ فجمعَ عليهم مكراتِهم الثَّلاثَ التي اكتفَوا في حقِّه عليه الصَّلاةُ والصَّلامُ بواحدةٍ منهن.