التفاسير

< >
عرض

مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
٣
-فاطر

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } عبَّر عن إرسالِها بالفتحَ إيذاناً بأنَّها أنفسُ الخزائنِ التي يتنافسُ فيها المتنافسون وأعزُّها منالاً. وتنكيرُها للإشاعةِ والإبهام أيْ أيَّ شيءٍ يفتحُ اللَّهُ من خزائنِ رحمتِه أيَّة رحمةٍ كانتْ من نعمةٍ وصحَّةٍ وأمنٍ وعلمٍ وحكمةٍ إلى غيرِ ذلكَ ممَّا لا يُحاط به { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } أي لا أحدَ يقدرُ على إمساكِها { وَمَا يُمْسِكْ } أيْ أيَّ شيءَ يُمسك { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } أي لا أحدَ يقدرُ على إرسالِه واختلافُ الضَّميرينِ لما أنَّ مرجعَ الأوَّلِ مفسَّرٌ بالرَّحمةِ ومرجعَ الثَّانِي مطلقٌ يتناولُها وغيرَها كائناً ما كان وفيه إشعارٌ بأنَّ رحمتَه سبقتْ غَضبه { مِن بَعْدِهِ } أي من بعدِ إمساكِه { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالبُ على كلِّ ما يشاءُ من الأمورِ التي من جُملتها الفتحُ والإمساك { ٱلْحَكِيمُ }الذي يفعلُ كلَّ ما يفعل حسبما تقتضيِه الحكمةُ والمصلحة والجملُة تذيـيلٌ مقررٌ لما قبلها ومعربٌ عن كونِ كلَ من الفتحِ والإمساكِ بموجبِ الحكمةِ التي عليها يدورُ أمرُ التَّكوينِ وبعد ما بـيَّن سبحانَه أنَّه الموجدُ للملك والملكوتِ والمتصرِّفُ فيهما بالقبضِ والبسطِ من غيرِ أنْ يكونَ لأحدٍ في ذلك دخلٌ ما بوجهٍ من الوجوهِ أمرَ النَّاس قاطبةً أو أهلَ مكَّةَ خاصَّةً بشكرِ نِعَمِه فقال:

{ يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي إنعامَه عليكم إنْ جُعلت النِّعمةُ مصدراً أو كائنةً عليكم إنْ جُعلت اسماً. أي راعُوها واحفظُوها بمعرفةِ حقِّها والاعترافِ بها، وتخصيصِ العبادةِ والطَّاعةِ بموليها ولمَّا كانتْ نعمُ الله تعالى مع تشعُّبِ فنونِها منحصرةً في نعمةِ الإيجادِ ونعمةِ الإبقاءِ نَفَى أنْ يكونَ في الوجودِ شيءٌ غيرُه تعالى يصدرُ عنه إحدى النِّعمتينِ بطريقِ الاستفهامِ الإنكاريِّ المُنادِي باستحالةِ أنْ يُجاب عنه بنعَم فقال: { هَلْ مِنْ خَـٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ } أي هَلْ خالقٌ مغايرٌ له تعالى موجودٌ على أنَّ خالقٍ مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ زيدتْ عليه كلمة مِن لتأكيدِ العُمومِ. وغيرِ الله نعتٌ له باعتبارِ محلِّه كما أنَّه نعتٌ له في قراءةِ الجرِّ باعتبار لفظِه وقُرىء بالنَّصبِ على الاستثناءِ. وقوله تعالى: { يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَاء وٱلأَرْضِ } أي بالمطرِ والنَّباتِ كلامٌ مبتدأٌ على التَّقاديرِ لا محلَّ له من الإعرابِ داخلٌ في حيِّز النَّفي والإنكار ولا مساغَ لما قيل: من أنَّه صفةٌ أخرى لخالق مرفوعةُ المحلِّ أو مجرورتُه لأنَّ معناه نفي وجودِ خالقٍ موصوفٍ بوصفَيْ المغايرةِ والرَّازقيَّةِ معاً من غير تعرُّضٍ لنفيِ وجودِ ما اتَّصف بالمغايرةِ فَقَطْ، ولا لما قيل: من أنَّه الخبرُ للمبتدأِ ولا لما قيل من أنَّه مفسِّر لمضمرٍ ارتفع به قولُه تعالى من خالقٍ على الفاعلية عليّه أي هل يرزقكم من خالق الخ. لما أنَّ معناهما نفي رازقيَّة خالقٍ مغايرٍ له تعالى من غيرِ تعرُّضٍ لنفيِ وجودِه رأساً مع أنَّه المرادُ حتماً ألا يرى إلى قولِه تعالى: { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } فإنَّه استئنافٌ مسوقٌ لتقرير النَّفيِ المستفادِ منه قصداً وجارٍ مجرى الجوابِ عمَّا يوهمه الاستفهامُ صورةً فحيث كان هذا ناطقاً بنفيِ الوجودِ تعيَّن أنْ يكونَ ذلك أيضاً كذلك قطعاً. والفاءُ في قوله تعالى: { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } لترتيبِ إنكارِ عدولهم عن التَّوحيدِ إلى الإشراكِ على ما قبلها كأنَّه قيل: وإذا تبـيَّن تفرُّده تعالى بالأُلوهيةِ والخالقيَّةِ والرازقيَّةِ فمنْ أيِّ وجهٍ تُصرفون عن التَّوحيدِ إلى الشِّركِ.