التفاسير

< >
عرض

وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ
١٥
وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ
١٦
ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
١٧

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَمَا يَنظُرُ هَـؤُلآء } شروعٌ في بـيان عقابِ كُفَّارِ مكَّة إثر بـيانِ عقابِ أضرابِهم من الأحزابِ الذين أُخبر فيما سبقَ بأنَّهم جندٌ حقيرٌ منهم مهزومٌ عن قريبٍ فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ انتظارَ السَّامعِ وترقبه إلي بـيانه قطعاً، وفي الإشارةِ إليهم بهؤلاء تحقيرٌ لشأنِهم وتهوينٌ لأمرِهم، وأمَّا جعلُه إشارةً إلى الأحزابِ باعتبارِ حضورِهم بحسبِ الذِّكرِ أو حضورِهم في علمِ الله عزَّ وجلَّ فليس في حيِّزِ الاحتمالِ أصلاً كيف لا والانتظار سواءٌ كان حقيقةً أو استهزاءً إنَّما يُتصوَّو في حقِّ من لم يترتب على أعمالِه نتائَجُها بعْد، وبعدَ ما بـيّن عقابُ الأحزابِ واستئصالُهم بالمرَّةِ لم يبقَ ممَّا أُريد بـيانُه من عقوباتهم أمرٌ منتظرٌ وإنَّما الذين في مرصدِ الأنتظارِ كفَّارُ مكَّةَ حيث ارتكبُوا من عظائمِ الجرائم وكبائرِ الجرائرِ الموجبة لأشدِّ العقوباتِ مثلَ ما ارتكب الأحزابُ أو أشدَّ منه ولمَّا يلاقوا بعد شيئاً من غوائلِها أي وما ينتظُر هؤلاءِ الكَفَرةُ الذين هم أمثالُ أولئك الطَّوائفِ المهلكة في الكُفرِ والتَّكذيبِ { إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً } هي النَّفخةُ الثَّانيةُ لا بمعني أنَّ عقابهم نفسُها بما فيها من الشِّدَّةِ والهَوْلِ فإنَّها داهيةٌ يعمُّ هولُها جميعَ الأُممِ برَّهاً وفاجرِها بل بمعنى أنَّه ليس بـينهم وبـين حلولِ ما أُعدَّ لهم من العقاب الفظيعِ إلاَّ هي حيثُ أُخِّرتْ عقوبتُهم إلى الآخرةِ لما أنَّ تعذيبَهم بالاستئصال حسبما يستحقُّونه. والنَّبـيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بـين أظهرهم خارجٌ عن السُّنَّةِ الإلهيَّةِ المبنية على الحكم الباهرةِ كما نطقَ به قولُه تعالى: { { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [سورة الأنفال: الآية 33] وأمَّا ما قيل: مِن أنَّها النَّفخةُ الأَولى فممَّا لا وجهَ له أصلاً لما أنَّه لا يشاهدُ هولَها ولا يُصعقُ بها إلاَّ من كانَ حيَّاً عند وقوعِها وليس عقابُهم الموعودُ واقعاً عقيبها ولا العذابُ المطَلقُ مؤخَّراً إليها بل يحلُّ بهم من حينِ موتِهم { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } أي من توقُّفٍ مقدار فَوَاقٍ وهو ما بـين الحَلْبتينِ. وقُرىء بضمِّ الفاءِ وهُما لغتانِ. وقولُه تعالى: { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ } حكاية لما قالُوه عند سماعِهم بتأخير عقابهم إلى الآخرةِ أي قالوا بطريق الاستهزاء والسُّخريةِ عجِّل لنا قطَّناً من العذابِ الذي تُوعدنا به ولا تؤخره إلى يومِ الحسابِ الذي مبدؤه الصَّيحةُ المذكورةُ. والقطُّ: القطعةُ من الشَّيءِ من قطَّه إذا قطَعه، ويقالُ لصحيفةِ الجائزةِ قطٌّ لأنَّها قطعةٌ من القرطاسِ، وقد فسِّر بها أي عجِّل لنا صحيفةَ أعمالِنا لننظرَ فيها. وقيل ذكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعدَ الله تعالى المؤمنينَ الجنَّة فَقالُوا على سبـيلِ الهُزءِ به عجِّلْ لنا نصيبنَا منها. وتصديرُ دُعائِهم بالنِّداءِ المذكورِ للإمعانِ في الاستهزاءِ كأنَّهم يدعُون ذلك بكمالِ الرَّغبةِ والابتهالِ.

{ ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } من أمثالِ هذه المقالاتِ الباطلةِ { وَٱذْكُرْ } لهم { عَبْدَنَا دَاوُودُ } أي قصَّته تهويلاً لأمرِ المعصيةِ في أعينهم وتنبـيهاً لهم على كمالِ قُبح ما اجترؤُا عليه من المَعاصي فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع علوِّ شأنِه واختصاصِه بعظائمِ النِّعمِ والكراماتِ لمَّا ألمَّ بصغيرةٍ نزلَ عن منزلتِه ووبَّخْته الملائكةُ بالتَّمثيلِ والتَّعريضِ حتَّى تفطَّنَ فاستغفرَ ربَّه وأنابَ ووُجد منه ما يُحكى من بكائِه الدَّائبِ وغمِّه الواصبِ وندمِه الدَّائمِ فما الظنُّ بهؤلاءِ الكَفَرةِ والأذلِّينَ من كلِّ ذليلٍ المرتكبـينَ لأكبرِ الكبائرِ المصرِّين على أعظمِ المَعَاصي أو تذكَّر قصَّته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وصُنْ نفسَك أنْ تزلَّ فيما كُلِّفت من مصابرتِهم وتحمُّلِ أذيَّتهم كيلا يلقاكَ ما لقيه من المعاتبةِ { ذَا ٱلأَيْدِ } أي ذَا الُقوَّة يقال فلانٌ أيدٌ وذُو أيدٍ وآدٌ بمعنى، وإيادُ كلِّ شيءٍ ما يُتقوَّى بهِ { إِنَّهُ أَوَّابٌ } رجَّاعٌ إلى مرضاةِ الله تعالى وهو تعليلٌ لكونِه ذَا الأيدِ ودليلٌ على أنَّ المرادَ به القَّوةُ في الدِّينِ فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يصومُ يوماً ويفطرُ يوماً ويقوم نصفَ اللَّيلِ.