التفاسير

< >
عرض

قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
٧٦
قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
٧٧
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِيۤ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ
٧٨
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِيۤ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
٧٩
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ
٨٠

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وقولُه تعالى: { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } أدِّعاءٌ منه لشيءٍ مستلزم لمنعهِ من السُّجودِ على زعمِه وإشعارٌ بأنَّه لا يليقُ أنْ يسجدَ الفاضلُ للمفضولِ كما يُعرب عنه قولُه: { { لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَـٰلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [سورة الحجر: الآية 33] وقولُه تعالَى { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } تعليلٌ لما ادَّعاهُ من فضلِه عليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولقد أخطأ اللَّعينُ حيث خصَّ الفضلَ بما من جهةِ المادَّةِ والعنصرِ وزلَّ عنه ما من جهة الفاعل كما أنبأَ عنه وقولُه تعالى: { { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [سورة ص: الآية 75] وما من جهة الصُّورة كما نبه عليه قوله تعالى: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } [سورة الحجر: الآية 29] وما من جهة الغايةِ وهو مِلاكُ الأمرِ، ولذلك أمرَ الملائكةَ بسجودِه عليهم السَّلامُ حين ظهرَ لهم أنَّه أعلمُ منهم بما يدورُ عليه من أمرِ الخلافةِ في الأرضِ وأنَّ له خواصَّ ليست لغيرِه. { قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا } الفاءُ لترتيبِ الأمر على ما ظهر من اللَّعينِ من المخالفةِ للأمرِ الجليلِ وتعليلِها بالأباطيلِ أي فاخرجْ من الجنَّةِ أو من زُمرةِ الملائكةِ وهو المرادُ بالأمرِ بالهبوطِ لا الهبوطِ من السَّماءِ كما قيل فإنَّ وسوستَه لآدمَ عليه السلام كانتْ بعد هذا الطَّردِ وقد بُـيِّن كيفيَّةُ وسوستِه في سُورة البقرةِ. وقيل: اخرجْ من الخلقةِ التي كنتَ فيها وانسلخْ منها فإنَّه كان يفتخرُ بخلقتِه فغيَّر الله خلقتَه فاسودَّ بعد ما كان أبـيضَ وقَبُح بعد ما كان حَسَناً وأظلمَ بعد ما كان نورانياً وقوله تعالى: { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } تعليلٌ للأمرِ بالخروجِ أي مطرودٌ من كلِّ خيرٍ وكرامةٍ، فإنَّ مَن يُطردْ يُرجمْ بالحجارةِ أو شيطان يُرجم بالشُّهبِ { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى } أي إبعادي عن الرَّحمةِ، وتقيـيدها بالإضافةِ مع إطلاقِها في قوله تعالى: { { وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ } [سورة الحجر: الآية 35] لما أنَّ لعنةَ اللاعنين من الملائكةِ والثَّقلينِ أيضاً من جهتِه تعالى وأنَّهم يدعُون عليه بلعنةِ الله تعالى وإبعادِه من الرَّحمةِ { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدّينِ } أي يوم الجزاء والعقوبة، وفيه إيذانٌ بأنَّ اللَّعنةَ مع كمال فظاعتها ليستْ جزاءً لجنايته بل هي أُنموذجٌ لما سيلقاه مستمرّاً إلى ذلك اليومِ لكن لا على أنَّها تنقطعُ يومئذٍ كما يُوهمه ظاهرُ التَّوقيتِ بل على أنَّه سيلقى يومئذٍ من ألوان العذابِ وأفانينِ العقابِ ما ينسى عنده اللَّعنَة وتصير كالزَّائلِ ألا يرى إلى قوله تعالي: { { فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } [سورة الأعراف: الآية 44] وقوله تعالى: { { وَيَلْعَنُ بَعْضُهُم بَعْضاً } [سورة العنكبوت: الآية 25].
{ قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى } أي أمهلنِي وأخِّرني، والفاءُ متعلِّقة بمحذوفٍ ينسحبُ عليه الكلام أي إذْ جعلتني رَجيماً فأمهلني ولا تُمتني { إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي آدمُ وذريتُه للجزاءِ بعد فنائِهم، وأرادَ بذلك أنْ يجدَ فُسحةً لإغوائِهم ويأخذَ منهم ثأرَه وينجوَ من الموتِ بالكلِّية إذ لا موتَ بعد يومِ البعثِ.

{ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ } ورودُ الجوابِ بالجملةِ الاسميَّةِ مع التَّعرُّضِ لشمولِ ما سأله لآخرين على وجهٍ يُشعر بكونِ السَّائلِ تبعاً لهم في ذلك دليلٌ واضحٌ على أنَّه إخبارٌ بالإنظارِ المقدَّر لهم أزلاً، لا إنشاء لإنظارٍ خاصَ به، وقد وقعَ إجابةً لدعائِه وأنَّ استنظارَه كان طَلَباً لتأخيرِ الموتِ إذ بهِ يتحقّقُ كونُه منهم لا لتأخيرِ العُقوبةِ كما قيل فإنَّ ذلكَ معلومٌ من إضافةِ اليَّومِ إلى الدِّينِ أي إنَّك من جُملةِ الذينَ أخِّرتْ آجالُهم أزلاً حسبما تقتضيِه حكمةُ التَّكوينِ.