التفاسير

< >
عرض

إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ
٨١
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
٨٢
إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ
٨٣
قَالَ فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ أَقُولُ
٨٤
لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ
٨٥

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } الذي قدَّره الله وعيَّنه لفناءِ الخلائقِ، وهو وقتُ النَّفخةِ الأولى لا إلى وقتِ البعثِ الذي هو المسؤولُ. فالفاءُ ليستْ لربطِ نفسِ الأنظارِ بالاستنظارِ بل لربطِ الإخبارِ المذكورِ به كما في قولِ مَن قال: [الوافر]

فإن تَرحمْ فأنتَ لذاكَ أهلُ

فإنَّه لا إمكان لجعل الفاء فيه لربطِ ما له تعالى من الأهليَّةِ القديمةِ للرَّحمةِ الحادثةِ بل هي لربط الإخبارِ بتلك الأهليةِ للرَّحمةِ بوقوعِها، هذا وقد تُرك التَّوقيتُ في سورةِ الأعرافِ كما تُرك النِّداءُ والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلاً على ما ذُكر ههنا وفي سُورة الحجرِ وإنْ خطَر ببالك أنَّ كلَّ وجهٍ من وجوهِ النَّظمِ الكريمِ لا بُدَّ أنْ يكونَ له مقامٌ يقتضيهِ مغاير لمقامِ غيرِه وأنَّ ما حُكي من اللَّعينِ إنَّما صدرَ عنه مرَّةً وكذا جوابُه لم يقعْ إلاَّ دفعةً فمقام الاستنظارِ والإنظارِ إنِ اقتضَى أحدَ الوجوهِ المحكيَّةِ فذلك الوجهُ هو المطابقُ لمقتَضى الحالِ والبالغُ إلى رُتبةِ البلاغةِ ودرجةِ الإعجازِ، وأمَّا ما عداهُ من الوجوهِ فهو بمعزلٍ من بلوغِ طبقةِ البلاغةِ فضلاً عن العُروجِ إلى معارجِ الإعجازِ فقد سلفَ تحقيقُه في سورةِ الأعرافِ بفضلِ الله تعالى وتوفيقِه. { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ } الباءُ للقسمِ والفاءُ لترتيبِ مضمونِ الجملةِ على الإنظارِ ولا يُنافيه قولُه تعالى فبما أغويتني وقوله ربِّ بما أغويتني فإنَّ إغواءَهُ تعالى إيَّاهُ أثرٌ من آثارِ قُدرتِه تعالى وعزَّتِه وحكمٌ من أحكامِ قهرِه وسلطنتِه فمآلُ الإقسامِ بهما واحدٌ ولعلَّ اللَّعينَ أقسمَ بهما جميعاً فحكى تارةً قسَمه بأحدِهما وأُخرى بالآخرِ أي فأُقسم بعزَّتِك { لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } أي ذريةَ آدمَ بتزيـينِ المَعَاصي لهم { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } وهم الذين أخلصَهم الله تعالى لطاعتِه وعصمَهم من الغوايةِ. وقُرىء المخلِصين على صيغةِ الفاعلِ أي الذينَ أخلصُوا قلوبَهم وأعمالَهم لله تعالى.

{ قَالَ } أي الله عزَّ وجلَّ { فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ أَقُولُ } يرفعِ الأوَّلِ على أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أو خبرٌ محذوفُ المبتدأِ، ونصبِ الثَّاني على أنَّه مفعولٌ لما بعدَهُ قُدِّم عليه للقصرِ، أي لا أقولُ إلاَّ الحقَّ. والفاءُ لترتيبِ ما بعدَها على ما قبلها أي فالحقُّ قَسَمي { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } على أنَّ الحقَّ إمَّا اسمُه تعالى، أو نقيضُ الباطلِ عظّمه الله تعالى بإقسامِه به أو فأنا الحقُّ أو فقولِي الحقُّ وقوله تعالى: { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } الخ حينئذٍ جوابٌ لقسمٍ محذوفٍ أي والله لأملأنَّ الخ وقوله تعالى: { وَٱلْحَقَّ أَقُولُ } [سورة ص: الآية 84] على كلِّ تقديرٍ اعتراضٌ مقرِّرٌ على الوجهينِ الأوَّلينِ لمضمونِ الجملةِ القَسَميَّةِ، وعلى الوجِه الثَّالثِ لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ أعني فقولي الحقُّ. وقُرئا منصوبـينِ على أنَّ الأوَّلَ مقسمٌ به كقولِك الله لأفعلنَّ وجوابُه لأملأنَّ وما بـينهما اعتراضٌ. وقُرئا مجرورينِ على أنَّ الأولَ مقسمٌ به قد أُضمرَ حرفُ قسمِه كقولِك الله لأفعلنَّ والحقَّ أقولَ على حكايةِ لفظِ المقسمِ به على تقديرِ كونِه نقيضَ الباطلِ ومعناه التَّأكيدُ والتَّشديدُ. وقُرىء بجرِّ الأَولِ على إضمارِ حرفِ القسمِ ونصبِ الثَّانِي على المفعوليَّةِ { مِنكَ } أي من جنسِك من الشَّياطينِ { وَمِمَّن تَبِعَكَ } في الغَوايةِ والضَّلالِ { مِنْهُمْ } من ذريةِ آدمَ { أَجْمَعِينَ } تأكيدٌ للكافِ وما عُطف عليه أي لأملأنَّها من المتبوعينَ والأتباعِ أجمعينَ، كقولِه تعالى: { { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [سورة الأعراف: الآية 18] وهذا القولُ هو المرادُ بقوله تعالى: { { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنْى لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [سورة السجدة: الآية 13] وحيثُ كان مناطُ الحكمِ ههُنا اتِّباعُ الشَّيطانِ اتَّضحَ أنَّ مدارَ عدمِ المشيئةِ في قولِه تعالى: { { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [سورة السجدة: الآية 83] اتباعُ الكَفَرةِ للشَّيطانِ بُسوءِ اختيارِهم لا تحقُّقُ القولِ فليس في ذلك شائبةُ الجبرِ فتدبَّر.