التفاسير

< >
عرض

وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً
١٢٤
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً
١٢٥
-النساء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتَ } أي بعضَها أو شيئاً منها فإن كلَّ أحدٍ لا يتمكن من كلها وليس مكلَّفاً بها { مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ } في موضع الحالِ من المستكنّ في { يَعْمَلُ } ومن للبـيان أو من الصالحات فمن للابتداء أي كائنةً من ذكر الخ، { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } حالٌ، شرَط اقترانَ العملِ بها في استدعاء الثوابِ المذكورِ تنبـيهاً على أنه لا اعتدادَ به دونه { فَأُوْلَـئِكَ } إشارةٌ إلى { مِنْ } بعنوان اتصافِه بالإيمان والعملِ الصالحِ، والجمعُ باعتبار معناها كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظِها وما فيه من معنى البُعد لما مر غيرَ مرةٍ من الإشعار بعلوّ رُتبةِ المُشار إليه وبُعد منزلتِه في الشرف { يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ } وقرىء يُدخَلون مبنياً للمفعول من الإدخال { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } أي لا يُنقصون شيئاً حقيراً من ثواب أعمالِهم فإن النقيرَ عَلَم في القلة والحَقارةِ وإذا لم يُنقص ثوابُ المطيعِ فلأَنْ لا يزادَ عقابُ العاصي أولى وأحرى، كيف لا والمجازي [هو] أرحمُ الراحمين، وهو السرُّ في الاقتصار على ذكره عَقيبَ الثواب.

{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } أي أخلص نفسَه له تعالى لا يعرِف له رباً سواه، وقيل: بذل وجهَه له في السجود، وقيل: أخلصَ عملَه له عز وجل، وقيل: فوّض أمرَه إليه تعالى، وهذا إنكارٌ واستبعادٌ لأن يكون أحدٌ أحسنَ ديناً ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيبِ متعرِّضاً لإنكار المساواةِ، ونفيُها يُرشِدُك إليه العُرفُ المطّردُ والاستعمالُ الفاشي، فإنه إذا قيل: مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلَ من فلان، فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضلُ من كل فاضلٍ، وعليه مساقُ قوله تعالى: { { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ } [العنكبوت، الآية 68] ونظائرِه، وديناً نُصب على التميـيز من أحسنُ منقولٌ من المبتدأ، والتقديرُ ومن دينُه أحسنُ من دين مَنْ أسلم الخ، فالتفضيلُ في الحقيقة جارٍ بـين الدينين لا بـين صاحبـيهما ففيه تنبـيه على أن ذلك أقصى ما تنتهي إليه القوةُ البشرية { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي آتٍ بالحسنات تاركٌ للسيئات، أو آتٍ بالأعمال الصالحة على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي، وقد فسره عليه الصلاة والسلام بقوله: "أن تعبُدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك" والجملةُ حال من فاعل أسلم { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ } الموافقةُ لدين الإسلامِ المتّفق على صحتها وقبولِها { حَنِيفاً } مائلاً عن الأديان الزائغةِ وهو حال من فاعل اتبع أو [حال] من إبراهيم.

{ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرٰهِيمَ خَلِيلاً } اصطفاه وخصَّه بكرامات تُشبه كراماتِ الخليلِ عند خليلِه، وإظهارُه عليه الصلاة والسلام في موقع الإضمار لتفخيم شأنِه والتنصيصِ على أنه الممدوحُ، وتأكيدِ استقلالِ الجملةِ الاعتراضية، والخُلّةُ من الخِلال فإنه ودٌّ تخلَّل النفسَ وخالطَها. وقيل: من الخَلَل فإن كل واحد من الخليلين يسد خلَلَ الآخَر، أو من الخل وهو الطريقُ في الرمل فإنهما يتوافقان في الطريقة أو من الخَلّة بمعنى الخَصْلة فإنهما يتوافقان في الخِصال، وفائدةُ الاعتراضِ جَمّةٌ من جملتها الترغيبُ في اتباع ملتِه عليه السلام فإن من بلغ من الزُّلفى عند الله تعالى مَبْلغاً مصحِّحاً لتسميته خليلاً حقيقٌ بأن يكون اتباعُ طريقتِه أهمَّ ما يمتد إليه أعناقُ الهِمم وأشرفَ ما يَرمُق نحوه أحداقُ الأُمم، قيل: (إنه عليه الصلاة والسلام بَعث إلى خليل له بمصرَ في أزمة أصابت الناسَ يمتارُ منه، فقال خليلُه: لو كان إبراهيمُ يطلب المِيرةَ لنفسه لفعلت، ولكنه يُريدها للأضياف، وقد أصابنا ما أصاب الناسَ من الشدة، فرجَع غِلمانُه عليه الصلاة والسلام فاجتازوا ببطحاءَ لينة فملأوا منها الغرائرَ حياءً من الناس وجاءوا بها إلى منزل إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام وألقَوْها فيه وتفرّقوا وجاء أحدُهم فأخبر إبراهيمَ بالقصة فاغتم لذلك غماً شديداً لا سيما لاجتماع الناسِ ببابه رجاءَ الطعام فغلبته عيناه وعمَدت سارةُ إلى الغرائر فإذا فيها أجودُ ما يكون من الحُوَّارَى فاختبزت، وفي رواية فأطعمت الناسَ وانتبه إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام فاشتم رائحةَ الخبزِ فقال: من أين لكم، قالت سارة: من خليلك المِصريِّ، فقال: بل من عند خليلي الله عز وجل فسماه الله تعالى خليلاً).