التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً
١٦
إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
١٧
-النساء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ } هما الزاني والزانيةُ تغليباً، قال السدي أُريد بهما البِكْران منهما كما ينبىء عنه كونُ عقوبتهِما أخفَّ من الحبس المخلّد وبذلك يندفع التكرارُ إلا أنه يبقى حكمُ الزاني المحصَنِ مبهماً لاختصاص العقوبةِ الأولى بالمحصنات، وعدمِ ظُهورِ إلحاقهِ بأحد الحكمين دلالةٌ لخفاء الشِرْكة في المناط { فَـآذُوهُمَا } أي بالتوبـيخ والتقريعِ، وقيل بالضرب بالنعال أيضاً والظاهرُ أن إجراءَ هذا الحكمِ أيضاً إنما يكون بعد الثبوتِ لكنْ ترك ذكره تعويلاً على ما ذكر آنفاً { فَإِن تَابَا } عما فعلا من الفاحشة بسبب ما لقيا من زواجرِ الأذيةِ وقوارعِ التوبـيخِ كما ينبىء عنه الفاء { وَأَصْلَحَا } أي أعمالهما { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } بقطع الأذيةِ والتوبـيخِ فإن التوبةَ والصلاحَ مما يمنع استحقاقَ الذمِّ والعقابِ. وقد جُوِّز أن يكون الخطابُ للشهود الواقفين على هَناتهما، ويراد بالإيذاء ذمُّهما وتعنيفُهما وتهديدُهما بالرفع إلى الولاة، وبالإعراض عنهما تُرك التعرُّضُ لهما بالرفع إليهم. قيل كانت عقوبةُ الفريقين المذكورين في أوائل الإسلامِ على ما مر من التفصيل ثم نُسخ بالحدّ لما روي أن النبـيّ عليه الصلاة والسلام قال: "خُذوا عني خُذوا عني قد جعل الله لهن سبـيلاً الثيبُ تُرجم والبِكرُ تُجلد" . وقيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً وكانت عقوبةُ الزناةِ الطلقاءِ الأذى ثم الحبسُ ثم الجلدُ ثم الرجمُ، وقد جُوِّز أن يكون الأمرُ بالحبس غيرَ منسوخٍ بأن يُتركَ ذكرُ الحدِّ لكونه معلوماً بالكتاب والسنة ويوصىٰ بإمساكهن في البـيوت بعد إقامةِ الحدِّ صيانةً لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروجِ من البـيوت والتعرُّضِ للرجال. ولا يخفى أنه مما لا يساعده النظمُ الكريمُ وقال أبو مسلم وعزاه إلى مجاهد: إن الأولى في السّحّاقات وهذه في اللوّاطين وما في سورة النورِ في الزناة والزواني متمسكاً بأن المذكورَ في الأولى صيغةُ الإناثِ خاصةً وفي الثانية صيغةُ الذكورِ ولا ضرورةَ للمصير إلى التغليب على أنه لا إمكانَ له في الأولى ويأباه الأمرُ باستشهاد الأربعةِ فإنه غيرُ معهودٍ في الشرع فيما عدا الزنا { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً } مبالغاً في قبول التوبةِ { رَّحِيماً } واسعَ الرَّحمةِ وهو تعليلٌ للأمر بالإعراض.

{ إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ } استئنافٌ مَسوقٌ لبـيان أن قبولَ التوبةِ من الله تعالى ليس على إطلاقه كما ينبىء عنه وصفُه تعالى بكونه تواباً رحيماً بل هو مقيدٌ بما سينطِق به النصُّ الكريمُ، فقولُه تعالى التوبةُ مبتدأٌ وقوله تعالى: { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوء } خبرُه، وقولُه تعالى على الله متعلقٌ بما تعلق به الخبرُ من الاستقرار، فإن تقديمَ الجارِّ والمجرورِ على عامله المعنويِّ مما لا نزاعَ في جوازه وكذا الظرفُ، أو بمحذوف وقع حالاً من ضمير المبتدإ المستكنِّ فيما تعلق به الخبرُ على رأي من جوَّز تقديمَ الحالِ على عاملها المعنويِّ عند كونِها ظرفاً أو حرفَ جر كما سبق في تفسير قوله تعالى: { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [آل عمران، الآية 97] وأيًّا ما كان فمعنى كونِ التوبةِ عليه سبحانه صدورُ القَبولِ عنه تعالى، وكلمةُ على للدِلالة على التحقق ألبتةَ بحكم جري العادةِ وسبْقِ الوعدِ حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه، وهذا مُراد مَنْ قال: كلمةُ على بمعنى مِنْ وقيل هي بمعنى عند، وعن الحسن يعني التوبةَ التي يقبلُها اللَّهُ تعالى وقيل هي التوبةُ التي أوجب اللَّهُ تعالى على نفسه بفضله قبولَها، وهذا يشير إلى أن قوله تعالى: { عَلَى ٱللَّهِ } صفةٌ للتوبة بتقديرِ مُتعلَّقِه معرفةً على رأي من جوّز حذفَ الموصولِ مع بعض صلتِه أي إنما التوبةُ الكائنةُ على الله، والمرادُ بالسوء المعصيةُ صغيرةً كانت أو كبـيرة، وقيل الخبرُ على الله وقوله تعالى للذين متعلقٌ بما تعلق به الخبرُ أو بمحذوف وقع حالاً من الضمير المستكنِّ في مُتعلَّق الخبر، وليس فيه ما في الوجه الأولِ من تقديم الحال على العامل المعنويِّ إلا أن الذي يقتضيه المقامُ ويستدعيه النظامُ هو الأولُ لما أن ما قبله من وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً إنما يقتضي بـيانَ اختصاصِ قبولِ التوبةِ منه تعالى بالمذكورين وذلك إنما يكونُ بجعل قولهِ تعالى للذين الخ خبراً، ألا ترى إلى قوله عز وجل: { وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ للَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَاتِ } [النساء، الآية: 18] الخ فإنه ناطقٌ بما قلنا كأنه قيل إنما التوبةُ لهؤلاء لا لهؤلاء { بِجَهَالَةٍ } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من فاعل يعملون أي يعملون السوءَ متلبّسين بها أي جاهلين سفهاءَ، أو بـيعملون على أن الباءَ سببـيةٌ أي يعملونه بسبب الجهالةِ لأن ارتكابَ الذنبِ مما يدعو إليه الجهلُ، وليس المرادُ به عدمَ العلمِ بكونه سوءاً بل عدمَ التفكرِ في العاقبة كما يفعله الجاهلُ قال قتادة: اجتمع أصحابُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فرأوْا أن كلَّ شيء عَصَىٰ به ربَّه فهو جهالةٌ عمداً كان أو خطأ. وعن مجاهد من عصى الله تعالى فهو جاهلٌ حتى ينزِعَ عن جهالته وقال الزجاج يعني بقوله (بجهالة) اختيارَهم اللذة الفانيةَ على اللذة الباقية { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } أي من زمان قريب وهو ما قبلَ حضورِ الموتِ كما ينبىء عنه ما سيأتي من قوله تعالى: { { حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } [النساء، الآية: 18] الخ فإنه صريح في أن وقتَ الاحتضارِ هو الوقتُ الذي لا تقبل فيه التوبةُ فبقيَ ما وراءَه في حيِّز القَبول. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قبل أن ينزِلَ به سلطانُ الموتِ وعن الضحاك كلُّ توبةٍ قبل الموتِ فهو قريبٌ.

وعن إبراهيمَ النَخَعيِّ: ما لم يُؤخَذْ بكَظَمِه وهو مجرى النفَس، وروى أبو أيوبَ عن النبـي صلى الله عليه وسلم "أن اللَّهَ تعالى يقبل توبةَ العبدِ ما لم يُغرغِرْ" وعن عطاءٍ لو قبل موته بفُواق ناقة، وعن الحسن أن إبليسَ قال حين أُهبط إلى الأرض وعزتِك لا أفارق ابنَ آدمَ ما دام روحُه في جسده، فقال تعالى: "وعزتي لا أُغلق عليه بابَ التوبةِ ما لم يُغرغِرْ" ومن تبعيضيةٌ أي يتوبون بعضَ زمانٍ قريبٍ كأنه سُمِّي ما بـين وجودِ المعصيةِ وبـين حضورِ الموتِ زماناً قريباً ففي أي جُزءٍ تاب من أجزاء هذا الزمانِ فهو تائب { فَأُوْلَـئِكَ } إشارةٌ إلى المذكورين من حيث اتصافُهم بما ذكر، وما فيه من معنى البُعد باعتبار كونِهم بانقضاء ذكرِهم في حكم البعيدِ، والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: { يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } وما فيه من تكرير الإسنادِ لتقوية الحكم وهذا وعدٌ بقَبول توبتهم إثرَ بـيانِ أن التوبة لهم والفاءُ للدِلالة على سببـيتها للقَبول { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } مبالِغاً في العلم والحِكمةِ فيبني أحكامَه وأفعالَه على أساس الحِكمةِ والمصلحةِ والجملةُ اعتراضيةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلَها، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ للإشعار بعلة الحُكمِ، فإن الألوهية أصلٌ لاتصافه تعالى بصفات الكمالِ.