التفاسير

< >
عرض

فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
١٧٣
يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً
١٧٤
-النساء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } بـيانٌ لحال الفريقِ المنويِّ ذكرُه في الإجمال، قُدّم على بـيان حالِ ما يقابله إبانةً لفضله ومسارعةً إلى بـيان كونِ حشرِه أيضاً معتبراً في الإجمال، وإيرادُه بعنوان الإيمانِ والعمل الصالحِ لا يوصْفِ عدمِ الاستنكافِ المناسبِ لما قبله وما بعده للتنبـيه على أنه المستتبِعُ لما يعقبُه من الثمرات { فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } من غير أن ينقُص منها شيئاً أصلاً { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } بتضعيفها أضعافاً مضاعفةً وبإيفاء ما لا عين رأتْ ولا أُذنٌ سمعت ولا خطَر على قلب بشر { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ } أي من عبادته عز وجل { وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ } بسبب استنكافِهم واستكبارِهم { عَذَاباً أَلِيماً } لا يُحيط به الوصف { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يلي أمورَهم ويدبّر مصالحَهم { وَلاَ نَصِيراً } ينصُرهم من بأسه تعالى وينجِّيهم من عذابه.

{ يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ إلى كافة المكلفين إثرَ بـيانِ بطلانِ ما عليه الكفرةُ من فنون الكفرِ والضلالِ وإلزامِهم بالبراهين القاطعةِ التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ، وإزاحةِ شُبَهِهم الواهيةِ بالبـينات الواضحةِ، وتنبـيهٌ لهم على أن الحجةَ قد تمت [عليهم] فلم يبقَ بعد ذلك علةٌ لمتعلِّلٍ ولا عُذرٌ لمعتذر.

{ قَدْ جَاءكُمُ } أي وصل إليكم وتقرَّرَ في قلوبكم بحيث لا سبـيلَ لكم إلى الإنكار { بُرْهَانَ } البرهانُ ما يُبرهَنُ به على المطلوب، والمرادُ به القرآنُ الدالُّ على صحة نبوةِ النبـيِّ عليه الصلاة والسلام المُثبِتُ لما فيه من الأحكام التي من جملتها ما أشير إليه مما أثبتته الآياتُ الكريمةُ من حقية الحقِّ وبُطلانِ الباطل. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبـي عليه الصلاة والسلام عبَّر عنه به لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه، وقيل: هو المعجزاتُ التي أظهرها، وقيل: هو دينُ الحقِّ الذي أتىٰ به، وقوله تعالى: { مّن رَّبّكُمْ } إما متعلق بجاءكم أو بمحذوف وقع صفةً مشرّفةً لبرهانٌ مؤكدةً لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافيةِ أي كائنٌ منه تعالى، على أن مِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً، وقد جُوِّز على الثاني كونُها تبعيضيةً بحذف المضافِ أي كائنٌ من براهينِ ربِّكم. والتعرضُ لعنوان الربوبـيّة مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبـين لإظهار اللُّطفِ بهم والإيذانِ بأن مجيئَه إليهم لتربـيتهم وتكميلِهم { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } أريد به أيضاً القرآنُ الكريمُ، عبّر عنه تارة بالبُرهان لما أشير إليه آنفاً وأخرى بالنور النيِّرِ بنفسه المنوَّرِ لغيره إيذاناً بأنه بـيِّنٌ بنفسه مستغنٍ في ثبوت حقِّيتِه وكونِه من عند الله تعالى بإعجازه، غيرُ محتاجٍ إلى غيره مبـينٌ لغيره من الأمور المذكورةِ وإشعاراً بهدايته للخلق وإخراجِهم من ظلمات الكفرِ إلى نور الإيمانِ، وقد سلك به مسلك العطفِ المبنيِّ على تغايُر الطرفين تنزيلاً للمغايرة العُنوانيةِ منزلةَ المغايَرَةِ الذاتية، وعبِّر عن لابسته للمخاطَبـين تارةً بالمجيء المسنَدِ إليه المنبىءِ عن كمال قوتِه في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيُثبِتُ أحكامَه من غير أن يجيءَ به أحدٌ، ويجيءُ على شُبَه الكفرةِ بالإبطال وأخرى بالإنزال الموُقَعِ عليه الملائمِ لحيثية كونِه نوراً توفيراً له باعتبار كلِّ واحدٍ من عنوانية حظِّه اللائقِ به، وإسنادُ إنزالِه إليه تعالى بطريق الالتفاتِ لكمال تشريفِه، هذا على تقدير كونِ البرهانِ عبارةً عن القرآن العظيمِ، وأما على تقدير كونِه عبارةً عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن المعجزات الظاهرةِ على يده أو عن الدينِ الحقِّ فالأمرُ هيِّنٌ، وقولُه تعالى: { إِلَيْكُمْ } متعلقٌ بأنزلنا فإن إنزالَه بالذات ــ وإن كان النبـي صلى الله عليه وسلم لكنه منزلٌ إليهم أيضاً بواسطته عليه الصلاة والسلام، وإنما اعتُبر حالُه بالواسطة دون حالِه بالذات ــ كما في قوله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } [النساء، الآية 105] ونظائرِه ــ لإظهار كمالِ اللطفِ بهم والتصريحِ بوصوله إليهم مبالغةً في الإعذار، وتقديمُه على المفعول الصريح مع أن حقَّه التأخرُ عنه لما مر غير مرة من الاهتمام بما قُدّم والتشويقِ إلى ما أُخِّر، وللمحافظة على فواصلِ الآي الكريمة.