التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً
٨٣
-النساء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } يقال: أذاعَ السِّرَّ وأذاع به أي أشاعه وأفشاه، وقيل: معنى أذاعوا به فعلوا به الإذاعةَ وهو أبلغُ من أذاعوه، وهو كلامٌ مسوقٌ لدفع ما عسى يُتوهَّم في بعض الموادِّ من شائبة الاختلافِ بناءً على عدم فهمِ المرادِ ببـيان أن ذلك لعدم وقوفِهم على معنى الكلامِ لا لتخلف مدلولِه عنه وذلك أن ناساً من ضَعَفة المسلمين الذين لا خِبرةَ لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم الرسولُ عليه الصلاة والسلام بما أوحِيَ إليه من وعدٍ بالظفر أو تخويفٍ من الكَفَرة يُذيعونه من غير فهمٍ لمعناه ولا ضبطٍ لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحمِلونه عليه من المحامل، وعلى تقدير الفهمِ قد يكون ذلك مشروطاً بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثرُه المتوقَّعُ فيكون ذلك منشأً لتوهم الاختلافِ فنُعيَ عليهم ذلك وقيل: { وَلَوْ رَدُّوهُ } أي ذلك الأمرَ الذي جاءهم { إِلَى ٱلرَّسُولِ } أي عرَضوه على رأيه عليه الصلاة والسلام مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبـير والالتفاتِ لما أن عنوانَ الرسالةِ من موجبات الردِّ والمراجعةِ إلى رأيه عليه الصلاة والسلام { وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ } وهم كبراءُ الصحابةِ البصراءِ في الأمور رضي الله تعالى عنهم { لَعَلِمَهُ } أي لعلم الرادُّون معناه وتدبـيرَه، وإنما وُضع موضِعَ ضميرِهم الموصولُ فقيل: { ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } للإيذان بأنه ينبغي أن يكونَ قصدُهم يردُّه إليهم استكشافُ معناه واستيضاحُ فحواه، أي لعَلِمه أولئك الرادّون الذين يستنبطونه أي يتلَّقوْنه ويستخرجون عليمه وتدبـيرَه منهم أي من جهة الرسولِ عليه الصلاة والسلام وأولي الأمرِ من صحابته رِضوانُ الله عليهم أجمعين، ولمّا فعلوا في حقه ما فعلوا فلم يقَعْ من الاشتباه وتوهّمِ الاختلافِ، وقيل: لعَلمه الذين يستخرجون تدبـيرَه بفِطَنهم وتجاربِهم ومعرفتِهم بأمور الحربِ ومكايدِها، فكلمةُ مِنْ في { مِنْهُمْ } بـيانية، وقيل: إنهم كانوا إذا بلغهم خبرٌ عن سرايا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أمن وسلامةٍ أو خوفٍ وخللٍ أذاعوا به وكانت إذاعتُهم مفسدةً، ولو ردوا ذلك الخبرَ إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وإلى أولي الأمرِ لعلم تدبـيرَ ما أُخبروا به الذين يستنبطونه أي يستخرجون تدبـيرَه بفِطَنهم وتجارِبِهم ومعرفتِهم بأمور الحربِ ومكايدِها، وقيل: كانوا يقِفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمرِ على أمن ووثوقٍ بالظهور على بعض الأعداءِ، أو على خوف فيُذيعونه فينتشرُ فيبلُغُ الأعداءَ فتعود إذاعتُهم مفسدةً، ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمرِ وفوّضوه إليهم وكانوا كأنْ لم يسمعوا لعَلِم الذين يستنبطون تدبـيرَه كيف يُدبِّرونه يأتون وما يذرون فيه، وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الأخبار عن السرايا مظنوناً غيرَ معلومِ الصِحّةِ فيُذيعونه فيعود ذلك وبالاً على المؤمنين، ولو ردّوه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى أولي الأمرِ وقالوا: نسكُتُ حتى نسمَعَه منهم ونعلمَ هل هو مما يُذاع أو لا يذاع لعَلِم صِحَّتَه وهل هو مما يُذاع أو لا يذاع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمرِ أي يتلقَّوْنه منهم ويستخرجون عِلمَه من جهتهم فمَساقُ النظمِ الكريمِ حينئذ لبـيان جنايةِ تلك الطائفةِ وسوءِ تدبـيرِهم إثرَ بـيانِ جنايةِ المنافقين ومكرِهم.

والخطاب في قوله تعالى: { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } للطائفة المذكورةِ على طريقة الالتفاتِ أي لولا فضلُه تعالى عليكم ورحمتُه بإرشادكم إلى طريق الحقِّ الذي هو المراجعةُ في مظانِّ الاشتباهِ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمرِ { لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَـٰنَ } وعمِلتم بآراء المنافقين فيما تأتون وما تذرون ولم تهتدوا إلى سُنن الصوابِ { إِلاَّ قَلِيلاً } وهم أولوا الأمرِ الواقفون على أسرار الكتابِ الراسخون في معرفة أحكامِه، فالاستثناءُ منقطعٌ، وقيل: ولولا فضلُه تعالى عليكم ورحمتُه بإرسال الرسولِ وإنزالِ الكتابِ لاتَّبعتم الشيطانَ وبقِيتم على الكفر والضلالةِ إلا قليلاً منكم قد تفضَّلَ عليه بعقل راجح اهتدىٰ به إلى طريق الحقِّ والصوابِ وعصَمَه من متابعة الشيطانِ كقُسِّ بنِ ساعِدةَ الإياديِّ، وزيدِ بنِ عمْرو بنِ نُفيل، ووَرَقةَ بنِ نوفلٍ وأضرابِهم، فالخطابُ للكل، والاستثناءُ متصلٌ، وقيل: المرادُ بالفضل والرحمة النُصرةُ والظفَرُ بالأعداء، أي لولا حصولُ النصرِ والظفرِ على التواتر والتتابعِ لاتبعتم الشيطانَ وتركتم الدينَ إلا قليلاً منكم وهم أولوا البصائرِ النافذةِ والنياتِ القويةِ والعزائمِ الماضيةِ من أفاضل المؤمنين الواقفين على حقبة الدينِ البالغين إلى درجة حقِّ اليقينِ المستغنين عن مشاهدة آثارِ حقِّيتِه من الفتْح والظفَرِ وقيل: إلا اتباعاً قليلاً.