التفاسير

< >
عرض

فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٧
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ فَإِنْ عُثِرَ } أي اطُّلع بعد التحليف { عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّا إِثْماً } حسبما اعترفا به بقولهما: إنا إذاً لمن الآثمين، أي فعلا ما يوجبُ إثماً من تحريفٍ وكَتم بأن ظهر بأيديهما شيءٌ من التركة وادَّعيا استحقاقَهما له بوجهٍ من الوجوه كما وقع في سبب النزول حسبما سيأتي { فَآخَرَانِ } أي رجلان آخران، وهو مبتدأ خبرُه { يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا } ولا محذورَ في الفصل بالخبر بـين المبتدأ وبـين وَصفِه الذي هو الجارُّ والمجرور بعده، أي يقومان مَقام اللذين عُثر على خيانتهما، وليس المراد بمقامهما مقامَ أداءِ الشهادة التي تولَّياها ولم يؤدِّياها كما هي، بل هو مقام الحبس والتحليف على الوجه المذكور لإظهار الحق وإبراز كذِبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما { مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ } على البناء للفاعل على قراءة عليَ وابنِ عباس وأُبـيَ رضي الله عنهم، أي من أهل البـيت الذين استحق { عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ } من بـينهم، أي الأقربانِ إلى الميت، الوارثانِ له، الأحقانِ بالشهادة أي باليمين كما ستعرفه، ومفعولُ (استحق) محذوفٌ أي استحقا عليهم أن يجرِّدوهما للقيام بها، لأنها حقُّهما ويُظهروا بهما كذِبَ الكاذبَـيْن، وهما في الحقيقة الآخرانِ القائمان مَقام الأوَّلَيْن على وضع المُظْهر مقام المُضْمَر، وقرىء على البناء للمفعول وهو الأظهر، أي من الذين استُحق عليهم الإثمُ أي جُنيَ عليهم، وهم أهلُ الميت وعشيرتُه، فالأَوْليان مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ كأنه قيل: ومن هما؟ فقيل: الأوليان، أو بدلٌ من الضمير في (يقومان) أو من (آخران) وقد جوِّز ارتفاعَه باستَحق على حذف المضاف، أي استحقّ عليهم انتدابُ الأوَّلَيْن منهم للشهادة، وقرىء (الأولِّين) على أنه صفة للذين الخ، مجرور أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدمُ على الأجانب في الشهادة لكونهم أحقَّ بها، وقرىء (الأولَيْن) على التثنية وانتصابُه على المدح، وقرىء (الأولان).

{ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ } عطف على يقومان { لَشَهَـٰدَتُنَا } المرادُ بالشهادة اليمينُ كما في قوله تعالى: { فَشَهَـٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَـٰدَاتٍ بِٱللَّهِ } [النور، الآية 6] أي لَيَمينُنا على أنهما كاذبان فيما ادَّعيا من الاستحقاق مع كونِها حقةً صادقةً في نفسها { أَحَقُّ } بالقبول { مِن شَهَـٰدَتِهِمَا } أي من يمينهما مع كونها كاذبةً في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقُهما للإثم، ويمينُنا منزهةٌ عن الرَّيْب والرِّيبة، فصيغةُ التفضيلِ مع أنه لا حقيةَ في يمينهما رأساً إنما هي لإمكان قَبولِها في الجُملة باعتبار احتمالِ صدقِهما في ادعاء تملُّكِهما لما ظهر في أيديهما { وَمَا ٱعْتَدَيْنَا } عطف على جواب القسم أي ما تجاوزنا فيها الحقَّ أو ما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما { أَنَاْ إِذِنَ لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } استئنافٌ مقرَّرٌ لما قبله، أي إنا إنِ اعتدَيْنا في يميننا لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى، أو لمن الواضعين الحقَّ في غير موضعه، ومعنى النظم الكريم أن المُحتَضَرَ ينبغي أن يُشهدَ على وصيته عدلين من ذوِي نسبِه أو دينه، فإن لم يجدْهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم، ثم إن وقع ارتيابٌ بهما أقسما على أنهما ما كتما من الشهادة ولا من التركة شيئاً بالتغليظ في الوقت، فإنِ اطُّلعَ بعد ذلك على كذبهما بأن ظهر بأيديهما شيءٌ من التركة، وادعيا تملُّكه من جهة الميت حلفَ الورثةُ وعُمل بأيْمانهم. ولعل تخصصَ الاثنين لخصوص الواقعة، فإنه رُوي (أن تميمَ بنَ أوسٍ الداري وعديَّ بنَ بدَّاء خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصْرانيـين ومعهما بديلُ بنُ أبـي مريم مولى عمْرو بنِ العاص وكان مسلماً مهاجراً، فلما قدِموا الشامَ مرضَ بديلٌ فكتب كتاباً فيه جميعُ ما معه وطرحه في متاعِه ولم يخبرْهما بذلك، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعَه إلى أهله، ومات، ففتشاه، فوجدوا فيه إناءً من فضة وزْنُه ثلثمائةِ مثقالٍ منقوشاً بالذهب، فغيَّباه ودفعا المتاعَ إلى أهله، فأصابوا فيه الكتاب، فطلبوا منهما الإناءَ فقالا: ما ندري، إنما أوصىٰ إلينا بشيءٍ وأمرَنا أن ندفعَه إليكم ففعلنا، وما لنا بالإناء من علم، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل { { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [المائدة، الآية 106] الآية، فاستحلَفَهما بعد صلاة العصر عند المِنْبر بالله الذي لا إلٰه إلا هو أنهما لم يخْتانا شيئاً مما دَفَع ولا كتما فحلَفا على ذلك فخلَّى عليه الصلاة والسلام سبـيلهما، ثم إن الإناءَ وُجد بمكةَ فقال مَنْ بـيده: اشتريتُه من تميم وعدي، وقيل: لما طالت المدةُ أظهراه فبلغ ذلك بني سهمٍ فطلبوه منهما فقالا: كنا اشتريناه من بديل، فقالوا: ألم نقلْ لكما: هل باع صاحبُنا من متاعه شيئاً، فقلتما: لا؟ قالا: ما كان لنا بـينةٌ فكرِهنا أن نُقِرَّ به، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله عز وجل: { فَإِنْ عُثِرَ } [المائدة، الآية 107] الآية، فقام عمروُ بنُ العاص والمطَّلِبُ بنُ أبـي وداعةَ السَّهْميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كَذَبا وخانا، فدفع الإناءَ إليهما). وفي رواية إلى أولياء الميت.

واعلم أنهما إن كانا وارثين (لبديل) فلا نسخ إلا في وصف اليمين، فإن الوارثَ لا يُحَلَّفُ على البَتات، وإلا فهو منسوخ.