التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوۤاْ آمَنَّا وَٱشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ
١١١
إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ
١١٢
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيّينَ } عطف على ما قبله من أخواتها الواقعةِ ظروفاً للنعمة التي أُمر بذكرها، وهي وإن كانت في الحقيقة عينُ ما يُفيده الجملُ التي أُضيفت إليها تلك الظروفُ من التأيـيد بروح القدس وتعليم الكتاب والحكمة وسائرِ الخوارق المعدودة، لكنها لمغايَرَتها لها بعنوانٍ منْبىءٍ عن غاية الإحسان أُمر بذكرها من تلك الحيثية، وجُعلت عاملةً في تلك الظروف لكفاية المغايَرَة الاعتبارية في تحقيق ما اعتُبر في مدلول كلمةِ (إذ) من تعدد النسبة، فإنه ظرف موضوعٌ لزمان نسبتين ماضيتين واقعتين فيه إحداهما معلومةُ الوقوعِ فيه للمخاطَب دون الأخرى، فيُراد إفادةُ وقوعها أيضاً له، فيضاف إلى الجملة المفيدة للنسبة الأولى، ويجعل ظرفاً معمولاً للنسبة الثانية، ثم قد تكون المغايَرةُ بـين النسبتين بالذات كما في قولك: اذكُرْ إحساني إليك إذ أحسنتَ إليّ. تريد تنبـيهَ المخاطَب على وقوع إحسانه إليك وهما نسبتان متغايرتان بالذات، وقد تكون بالاعتبار كما في قولك: اذكر إحساني إليك إذ منعتُك من المعصية، تريد تنبـيهه على كون منعه منها إحساناً إليه لا على إحسانٍ آخرَ واقعٍ حينئذ، ومن هذا القبـيل عامةُ ما وقع في التنزيل من قوله تعالى: { يَـٰقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } [المائدة، الآية 20] الآية، وقولِه تعالى: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } [المائدة، الآية 11] إلى غير ذلك من النظائر. ومعنى إيحائه تعالى إليهم أمرُه تعالى إياهم في الإنجيل على لسانه عليه السلام. وقيل: إلهامُه تعالى إياهم كما في قوله تعالى: { { وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمّ مُوسَىٰ } [القصص، الآية 7] و(أنْ) في قوله تعالى: { أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } مفسِّرة لما في الإيحاء من معنى القول، وقيل: مصدرية، وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالة للتنبـيه على كيفية الإيمان به عليه السلام كأنه قيل: آمنوا بوحدانيتي في الألوهية والربوبـية وبرسالة رسولي ولا تُزيِّلوه عن حيِّزه حطّاً ولا رفعاً، وقوله تعالى: { قَالُواْ } استئناف مبنيٌّ على سؤال نشأ من سَوْق الكلام كأنه قيل: فماذا قالوا حين أوحِيَ إليهم ذلك؟ فقيل: قالوا: { آمنّا } أي بما ذُكر من وحدانيته تعالى وبرسالة رسولِه كما يُؤذِنُ به قولهم: { وَٱشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } أي مخلِصون في إيماننا، من أسلم وجهَه لله، وهذا القولُ منهم ـ بمقتضىٰ وحيه تعالى وأمرِه لهم بذلك ـ نعمةٌ جليلة كسائر النعم الفائضة عليه عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك نعمةٌ على والدته أيضاً. رُوي أنه عليه السلام لما علم أنه سيُؤمر بذكر هاتيك النعم العِظامِ جعل يلبَسُ الشَّعْرَ ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد، يقول: لكل يوم رزقُه، لم يكن له بـيت فيخرَبَ ولا ولد فيموتَ، أينما أمسى بات.

{ إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ } كلام مستأنفٌ مَسوقٌ لبـيان بعض ما جرى بـينه عليه السلام وبـين قومه، منقطعٌ عما قبله كما ينبىء عنه الإظهارُ في موقع الإضمار و(إذ) منصوب بمُضمر خوطب به النبـي عليه الصلاة والسلام بطريق تلوين الخطاب والالتفات، لكن لا لأن الخطاب السابقَ لعيسى عليه السلام فإنه ليس بخطاب وإنما هو حكايةُ خطاب، بل لأن الخطابَ لمن خوطب بقوله تعالى: { { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [المائدة، الآية 108] الآية، فتأمل، كأنه قيل للنبـي صلى الله عليه وسلم عَقيبَ حكايةِ ما صدر عن الحواريـين من المقالة المعدودة من نعم الله تعالى الفائضة على عيسى عليه السلام: اذكُر للناس وقت قولهم الخ، وقيل: هو ظرف لقالوا، أريد به التنبـيهُ على أن ادعاءَهم الإيمانَ والإخلاصَ لم يكن عن تحقيقٍ وإيقان، ولا يساعده النظم الكريم { يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ ٱلسَّمَاء } اختلف في أنهم هل كانوا مؤمنين أو لا؟ فقيل: كانوا كافرين شاكّين في قدرة الله تعالى على ما ذَكَروا، وفي صدْقِ عيسى عليه السلام، كاذبـين في دعوى الإيمان والإخلاص، وقيل: كانوا مؤمنين وسؤالُهم للاطمئنان والتثبّت لا لإزاحة الشك، و(هل يستطيع) سؤال عن الفعل دون القدرة عليه تعبـيراً عنه بلازمه، وقيل: الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة، لا على ما تقتضيه القدرة، وقيل: المعنى هل يطيع ربك؟ بمعنى هل يجيبك؟ واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب، وقرىء (هل تستطيعُ ربَّك) أي سؤال ربك، والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف يصرِفك عنه؟ وهي قراءة علي وعائشةَ وابن عباس ومعاذٍ رضي الله عنهم، وسعيدِ بن جبـير في آخرين، والمائدة الخِوانُ الذي عليه الطعام، من مادَه إذا أعطاه ورفدَه، كأنها تَميدُ مَنْ تُقدَّم إليه، ونظيرُه قولهم: شجرة مطعمة، وقال أبو عبـيد: هي فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية { قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ناشىءٍ مما قبله، كأنه قيل: فماذا قال لهم عيسى عليه السلام حين قالوا ذلك؟ فقيل: قال: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي من أمثال هذا السؤال { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي بكمال قدرته تعالى وبصِحّة نبوتي أو إن صَدَقتم في ادّعاء الإيمانِ والإسلام فإن ذلك مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات وقيل أمرهم بالتقوى ليصير ذلك ذريعةً لحُصول المسؤول، كقوله تعالى: { { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [الطلاق، الآية 2] وقولِه تعالى: { يَـاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُواْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ } [المائدة، الآية 35].