التفاسير

< >
عرض

إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١١٨
قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١١٩
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } وقد استحقوا ذلك حيث عبدوا غيرك { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ } أي القويُّ القادر على جميع المقدورات، ومن جملتها الثوابُ والعقاب { ٱلْحَكِيمُ } الذي لا يُريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمةٌ ومصلحة، فإن المغفرة مستحسَنة لكل مجرم، فإن عذّبت فعدلٌ، وإن غفرت ففَضْلٌ، وعدمُ غفرانِ الشرك إنما هو بمقتضى الوعيد، فلا امتناعَ فيه لذاته ليمنعَ الترديدُ بالنسبة إلى فرقتين، والمعنى إن تعذبْهم أي مَنْ كفر منهم، وإن تغفرْ لهم أي من آمن منهم.

{ قَالَ ٱللَّهُ } كلامٌ مستأنَفٌ خَتَم به حكايةَ ما حُكيَ، مما يقعُ يوم يجمع الله الرسلَ عليهم الصلاة والسلام، وأُشير إلى نتيجته ومآله، أي يقول الله تعالى يومئذ عَقيبَ جواب عيسى عليه السلام، مشيراً إلى صدقه في ضمن بـيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم، وصيغةُ الماضي لما مرَّ في نظائره مراراً، وقوله تعالى: { هَـٰذَا } إشارة إلى ذلك اليوم، وهو مبتدأ خبرُه ما بعده، أي هذا اليوم الذي حُكيَ بعضُ ما يقع فيه إجمالاً وبعضُه تفصيلاً { يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ } بالرفع والإضافة، والمراد بالصادقين كما ينبىء عنه الاسم، المستمرّون في الدارين على الصدق في الأمور الدينية التي معظمُها التوحيدُ الذي نحن بصدده، والشرائعُ والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك، وبه تحصُل الشهادةُ بصِدْق عيسى عليه السلام، ومن الأمم المصدِّقين لهم المقتدين بهم عقداً وعملاً، وبه يتحقق المقصودُ بالحكاية من ترغيب السامعين في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلِّ من صدَقَ في أي شيء كان، ضرورةَ أن الجانِيَ المعترِفَ في الدنيا بجِنايته لا ينفعُه يومئذ اعترافُه وصِدْقُه { صِدْقُهُمْ } أي صدقهم فيما ذُكر من أمور الدين في الدنيا، إذ هو المستتبِعُ للنفع يومئذ، واعتبارُ استمراره في الدارين مع أنه لا حاجة إليه كما عرفت، ولا دخل له في استتباع النفع والجزاء مما لا وجه له، وهذه القراءةُ هي التي أطبق عليها الجمهورُ وهي الأليق بسياق النظم الكريم وسباقِه، وقد قرىء (يومَ) بالنصب إما على أنه ظرف لقال، فهذا حينئذ إشارةٌ إلى قوله تعالى: { أَأَنتَ قُلتَ } الخ، وإما على أنه خبرٌ لهذا، فهو حينئذ إشارة إلى جواب عيسى عليه السلام، أي هذا الجواب منه عليه السلام واقعٌ يوم ينفع الخ، أو إلى السؤال والجواب معاً، وقيل: هو خبر ولكنه بني على الفتح، وليس بصحيح عند البصريـين لأنه مضافٌ إلى متمكنَ، وقرىء (يومٌ) بالرفع والتنوين كقوله تعالى: { { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي } [البقرة: الآيتان، الآية 48 و123] .

{ لَهُمْ جَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } استئناف مَسوقٌ لبـيان النفع المذكور كأنه قيل: ما لهم من النفع؟ فقيل: لهم نعيمٌ دائم وثوابٌ خالد، وقوله تعالى: { رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ } استئنافٌ آخرُ لبـيان أنه عز وجل أفاض عليهم غيرَ ما ذُكر من الجنات ما لا قدْرَ لها عنده، وهو رضوانُه الذي لا غايةَ وراءَه كما ينبىء عنه قوله تعالى: { وَرَضُواْ عَنْهُ } إذ لا شيء أعزُّ منه حتى يمتدَّ إليه أعناقُ الهمم { وَذٰلِكَ } إشارةٌ إلى نيل رضوانه تعالى، وقيل: إلى نيل الكل { ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } لما أن عِظَمَ شأنِ الفوز تابعٌ لعِظَم شأن المطلوب الذي تعلّق به الفوز. وقد عرفت ألا مطلبَ وراء ذلك أصلاً.