التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٤
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } شروع في تفصيل المحلَّلاتِ التي ذَكَر بعضَها على وجه الإجمال إِثْرَ بـيانِ المحرمات كأنهم سألوا عنها عند بـيان أضدادِها، ولِتَضَمُّنِ السؤال معنى القولِ أوقعُ على الجملة، فـ (ماذا) مبتدأ و(أحل لهم) خبرُه، وضميرُ الغَيْبَة لِمَا أنّ يسألون بلفظ الغيبة فإنه كما يُعتبرُ حالُ المحكيِّ عنه فيقال: أقسمَ زيدٌ لأفعلَنّ، يُعتبرُ حالُ الحاكي، فيقال: أقسمَ زيدٌ ليفعَلَنّ، والمسؤول ما أحل لهم من المطاعم { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ } أي ما لم تستخبثْه الطّباعُ السليمة ولم تنفِرْ عنه كما في قوله تعالى: { وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَـئِثَ } { وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ ٱلْجَوَارِحِ } عطفٌ على الطيبات بتقدير المضاف على أن (ما) موصولٌ والعائد محذوف، أي وصيدُ ما علَّمتُموه، أو مبتدأ على أن (ما) شرطيةٌ والجوابُ فكلوا، وقد جوَّزَ كونَها مبتدأً على تقديرِ كونِها موصولةً أيضاً والخبرُ كلوا، وإنما دخلته الفاء تشبـيهاً للموصول باسم الشرط و(من الجوارح) حالٌ من الموصول أو ضميرِه المحذوف، والجوارحُ الكواسبُ من سباع البهائم والطير، وقيل: سميت بها لأنها تجرَحُ الصيدَ غالباً { مُكَلّبِينَ } أي معلِّمين لها الصيدَ والمكلِّبُ مؤدّبُ الجوارحِ ومُضْرِيها بالصيد، مشتقٌ من الكَلْب لأن التأديب كثيراً ما يقع فيه، أو لأن كلَّ سبُعٍ يسمى كَلْباً لقوله عليه الصلاة والسلام في حق عُتبةَ بنِ أبـي لهبٍ حين أراد سفرَ الشأم، فقال النبـي عليه الصلاة والسلام: "اللهم سلِّطْ عليه كلباً من كلابك" فأكلَه الأسد. وانتصابُه على الحالية من فاعلِ (علَّمتم) وفائدتُها المبالغةُ في التعليم لما أن اسم المكلّب لا يقع إلا على التحرير في علمِه. وقرىء مُكْلِبـين بالتخفيف والمعنى واحد { تُعَلّمُونَهُنَّ } حال ثانية منه أو حالٌ من ضمير مكلِّبـين أو استئناف { مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ } من الحِيَل وطُرُق التعليم والتأديب، فإن العلمَ به إلهامٌ من الله تعالى أو مكتسَبٌ بالعقل الذي هو منحةٌ منه أو مما عرَّفَكم أن تعلموه من اتباعِ الصيدِ بإرسالِ صاحبِه وانزجارِه بزَجْرِه وانصرافِه بدعائه وإمساكِ الصيد عليه وعدمِ أكلِه منه { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } قد مر فيما سبق أن هذه الجملةَ ـ على تقدير كونِ ما شرطيةً ـ جوابُ الشرط، وعلى تقدير كونِها موصولةً مرفوعةٌ على الابتداءِ خبرٌ لها، وأما على تقدير كونِها عطفاً على الطيبات فهي جُملةٌ متفرِّعةٌ على بـيان حلِّ صيدِ الجوارح المُعْلَمة مبـيِّنةٌ للمضاف المقدَّر الذي هو المعطوف، وبه يتعلق الإحلالُ حقيقةً، ومشيرةٌ إلى نتيجةِ التعليم وأثره، داخلةٌ تحت الأمر، فالفاء فيها كما في قوله: [البسيط]

أمرتُك الخيرَ فافعَلْ ما أُمِرْتَ به [فقد تركُتكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ]

ومِنْ تبعيضيةٌ لما أن البعضَ مما لا يتعلق به الأكلُ كالجلودِ والعظامِ والريش وغير ذلك، وما موصولةٌ أو موصوفةٌ حذِفَ عائدُها و(على) متعلقة بأمسكن أي فكلوا بعض ما أمسَكْنه عليكم وهو الذي لم يأكُلْن منه، وأما ما أكلن منه فهو مما أمسَكْنه على أنفسِهن لقوله عليه الصلاة والسلام لعديِّ بن حاتم: "وإن أكل منه فلا تأكل، إنما أمْسَكَ على نفسِهِ" وإليه ذهب أكثرُ الفقهاء.

وقال بعضُهم: لا يشترط عدمُ الأكل في سباعِ الطير لما أن تأديبَها إلى هذه الدرجة متعذِّر، وقال آخرون: لا يُشترط ذلك مطلقاً، وقد رُوي عن سَلمانَ وسعدِ بن أبـي وقاص، وأبـي هريرة، رضي الله تعالى عنهم أنه إذا أكل الكلبُ ثلثيه وبقيَ ثلثُه وقد ذكرتَ اسم الله عليه فكُل { وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } الضميرُ لما عَلَّمتم أي سمُّوا عليه عند إرسالِه، أو لِما أمسكنه، أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاتَه { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في شأن محرماته { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أي سريعُ إتيانِ حسابه، أو سريعُ تمامِه، إذا شرَعَ فيه يتِمُّ في أقربِ ما يكون من الزمان، والمعنى على التقديرين أنه يؤاخِذُكم سريعاً في كل ما جل ودق، وإظهارُ الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربـية المهابة وتعليلِ الحُكْم.