التفاسير

< >
عرض

وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ
٨٨
لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٨٩
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيّباً } أي ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله، فحلالاً مفعول (كلوا)، ومما رزقكم إما حال منه تقدمت عليه لكونه نكرةً، أو متعلق بكلوا، ومِنْ ابتدائية، أو هو المفعول وحلالاً حال من الموصول، أو مِنْ عائدِه المحذوف، أو صفةٌ لمصدرٍ محذوف، أي أكلاً حلالاً، وعلى الوجوه كلها لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } توكيد للوصية بما أَمَر به، فإن الإيمان به تعالى يوجب المبالغة في التقوى والانتهاء عما نهىٰ عنه.

{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِى أَيْمَـٰنِكُمْ } اللغو في اليمين الساقطُ الذي لا يتعلق به حُكم، وهو عندنا أن يحلِف على شيء يظن أنه كذلك وليس كما يظن، وهو قول مجاهد، قيل: كانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظنِّ أنه قُربة، فلما نزل النهي قالوا: كيف بأيْماننا؟ فنزلت، وعند الشافعيرحمه الله تعالى، ما يبدو من المرء من غير قصد كقوله: لا والله وبلى والله، وهو قول عائشةَ رضي الله تعالى عنها، و(في أيمانكم) صلةُ يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر، أو حال منه{ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَـٰنَ } أي بتعقيدكم الأَيمانَ وتوثيقها عليه بالقصد والنية، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقّدتموه إذا حنِثتم أو بنَكْثِ ما عقّدتم، فحُذِف للعلم به، وقرىء بالتخفيف، وقرىء (عاقدتم) بمعنى عقدتم { فَكَفَّارَتُهُ } أي فكفارةُ نكْثِه وهي الفعلة التي من شأنها أن تكفّرَ الخطيئة وتستُرَها، واستُدل بظاهره عن جواز التكفير قبل الحِنْث، وعندنا لا يجوز ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "من حلَف على يمينٍ ورأى غيرَها خيراً فليأتِ الذي هو خيرٌ ثم لْيُكفِّرْ عن يمينه" { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي ما أقصَدِه في النوع أو المقدار، وهو نصفُ صاع من بُر لكلِّ مسكين، ومحلُّه النصبُ لأنه صفةُ مفعولٍ محذوف تقديرُه أن تُطعموا عشرة مساكينَ طعاماً كائناً من أوسط ما تطعمون، أو الرفعُ على أنه بدل من إطعام، وأهلون جمعُ أهلٍ كأَرَضون جمع أرض، وقرىء (أهاليكم) بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف، وهذا أيضاً جمع أهلٍ كالأراضي في جمع أرض والليالي في جمع ليل، وقيل: جمع أهلاة { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } عطف على (إطعامُ) أو على محلَّ (من أوسط) على تقدير كونه بدلاً من (إطعام) وهو ثوب يغطي العورة، وقيل: ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار، وقرىء بضم الكاف وهي لغة كقِدوة في قُدوة وإسوة في أُسوة، وقرىء أو (كأُسوتهم) على أن الكاف في محل الرفع تقديره أو إطعامهم كأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً وتقتيراً تواسون بـينهم وبـينهم إن لم تُطعموهم الأوسط { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي أو إعتاقُ إنسان كيفما كان، وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه فيه الإيمان قياساً على كفارة القتل، ومعنى (أو) إيجابُ إحدى الخصال مطلقاً وخيارُ التعيـين للمكلف.

{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } أي شيئاً من الأمور المذكورة { فَصِيَامُ } أي فكفارتُه صيام { ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ } والتتابع شرط عندنا لقراءة (ثلاثة أيام متتابعات)، والشافعي رضي الله عنه لا يرى للشواذ حجة { ذٰلِكَ } أي الذي ذكر { كَفَّارَةُ أَيْمَـٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } أي وحنِثْتم { وَٱحْفَظُواْ أَيْمَـٰنَكُمْ } بأن تضِنوا بها ولا تبذُلوها كما يُشعر به قوله تعالى: { إِذَا حَلَفْتُمْ }، وقيل: بأن تَبَرّوا فيها ما استطعتم ولم يفُتْ بها خير، أو بأن تكفروها إذا حنِثتم، وقيل: احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاوناً بها { كَذٰلِكَ } إشارة إلى مصدر الفعل الآتي لا إلى تبـيـينٍ آخَرَ مفهومٍ مما سبق، والكاف مقحمةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة، ومحله في الأصل النصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف وأصل التقدير: يبـين الله تبـيـيناً كائناً مثلَ ذلك التبـيـين، فقدم على الفعل لإفادة القصر، واعتُبرت الكاف مقحمةً للنكتة المذكورة، فصار نفسَ المصدر لا نعتاً له، وقد مر تفصيله في قوله تعالى: { { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة، الآية 143] أي ذلك البـيان البديع { يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَـٰتِهِ } أعلام شريعته وأحكامه لا بـياناً أدنى منه، وتقديم (لكم) على المفعول لما مر مراراً { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج.