التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٩٥
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } شروع في بـيان ما يتدارك به الاعتداءُ من الأحكام إثر بـيانِ ما يلحقه من العذاب، والتصريح بالنهي في قوله تعالى: { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } مع كونه معلوماً لا سيما من قوله تعالى: { غَيْرَ مُحِلّى ٱلصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبُه عليه، واللام في الصيد للعهد حسبما سلف، وحُرُم جمع حَرام، وهو المُحرم وإن كان في الحِل، وفي حكمه من في الحَرَم وإن كان حَلالاً، كرُدُح جمع رَادح، والجملة حال من فاعل لا تقتلوا، أي لا تقتلوه وأنتم محرمون { وَمَن قَتَلَهُ } أي الصيد المعهود، وذِكرُ القتل في الموضعين دون الذبح للإيذان بكونه في حكم الميتة { مّنكُمْ } متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل قتله أي كائناً منكم.

{ مُّتَعَمّداً } حال منه أيضاً أي ذاكراً لإحرامه عالماً بحُرمة قتل ما يقتله، والتقيـيدُ بالتعمّد مع أن محظوراتِ الإحرام يستوي فيها العمْدُ والخطأ لِما أن الآية نزلتْ في المتعمِّد كما مرَّ من قصة أبـي اليَسَر، ولأن الأصل فعلُ المتعمّد والخطأ لاحقٌ به للتغليظ، وعن الزُهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ. وعن سعيد بن جُبـير رضي الله عنه: لا أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط التعمّد في الآية، وهو قول داودَ عن مجاهد والحسن: أن المراد بالتعمد هو تعمدُ القتل مع نسيان الإحرام، أما إذا قتله عمْداً وهو ذاكراً لإحرامه فلا حكم عليه، وأمره إلى الله عز وجل، لأنه أعظمُ من أن يكون له كفارة. { فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ } برفعهما، أي فعليه جزاءٌ مماثلٌ لما قتله، وقرىء برفع الأول ونصب الثاني على إعمال المصدر، وقرىء بجرِّ الثاني على إضافته إلى مفعوله، وقرىء (فجزاؤه مثلُ) ما قتل على الابتداء والخبرية، وقرىء بنصبهما على تقدير فليجْزِ جزاءً أو فعليه أن يُجزىٰ جزاءً مثلَ ما قتل، والمرادُ به عند أبـي حنيفة وأبـي يوسف رضي الله عنهما المثلُ باعتبار القيمة، يُقوَّم الصيد حيث صِيدَ أو في أقرب الأماكن إليه، فإن بلغَت قيمتُه قيمةَ هدْيٍ يُخير الجاني بـين أن يشتريَ بها قيمةَ الصيد فيُهدِيَه إلى الحرم، وبـين أن يشتريَ بها طعاماً فيُعطيَ كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره، وبـين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً، فإن فضل ما لا يبلغُ طعامَ مسكين تصدّق به أو صام عنه يوماً كاملاً، إذ لم يُعهد في الشرع صومُ ما دونه فيكون قوله تعالى: { مِنَ ٱلنَّعَمِ } بـياناً للهدْي المشترىٰ بالقيمة على أحد وجوه التخيـير، فإنَّ من فعل ذلك يصدُق عليه أنه جُزيَ بمثل ما قتل من النَّعم، وعن مالك والشافعي رحمهما الله تعالى ومن يرى رأيهما: هو المِثْلُ باعتبار الخِلْقة والهيئة لأن الله تعالى أوجب مثلَ المقتول مقيداً بالنَّعم، فمن اعتبَر المِثْل بالقيمة فقد خالف النص، وعن الصحابة رضي الله عنهم: أنهم أوجبوا في النَّعامة بدنةً، وفي الظبْـيِ شاةً، وفي حمار الوَحش بقرَةً، وفي الأرنب عَناقاً، وعن النبـي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الضبُع صيدٌ وفيه شاةٌ إذا قتله المُحرم" ولنا أن النصَّ أوجبَ المثْل، والمِثْلُ المطلق في الكتاب والسنة وإجماعِ الأمة والمعقولِ يُراد به إما المثلُ صورةً ومعنى، وإما المثلُ معنى. وأما المثلُ صورةً بلا معنى فلا اعتبارَ له في الشرع أصلاً، وإذا لم يمكن إرادةُ الأول إجماعاً تعيّنت إرادةُ الثاني لكونه معهوداً في الشرع كما في حقوق العباد، ألا يرى أن المماثلة بـين أفراد نوعٍ واحد مع كونها في غاية القوة والظهور لم يعتبْرها الشرع، ولم يجعل الحيوانَ عند الإتلاف مضموناً بفردٍ آخَرَ من نوعه مماثلٍ له في عامة الأوصاف بل مضموناً بقيمتِه مع أن المنصوص عليه في أمثاله إنما هو المثل، قال تعالى: { فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } فحيث لم تُعتبرْ تلك المماثلةُ القويةُ مع تيسُّر معرفتِها وسهولةِ مراعاتِها فَلأَنْ لا تُعتبرُ ما بـين أفراد أنواع مختلفةٍ من المماثلة الضعيفة الخفيةِ ـ مع صعوبة مأخذِها وتعسُّرِ المحافظة عليها ـ أولى وأحرى، ولأن القيمة قد أريدت فيما لا نظيرَ له إجماعاً فلم يبق غيرُه مراداً، إذْ لا عمومَ للمشترَك في مواقع الإثبات، والمراد بالمرويِّ إيجابُ النظير باعتبار القيمة لا باعتبار العين، ثم الموجبُ الأصليُّ للجناية والجزاءِ المماثلِ للمقتول إنما هو قيمتُه، لكن لا باعتبار أن يعمِدَ الجاني إليها فيصرِفَها إلى المصارف ابتداءً، بل باعتبار أن يجعلَها معياراً فيقدِّرَ بها إحدى الخصال الثلاث فيُقِيمَها مُقامها، فقوله تعالى: { مّثْلُ مَا قَتَلَ } وصفٌ لازم للجزاء، غيرُ مفارِقٍ عنه بحال، وأما قوله تعالى: { مِنَ ٱلنَّعَمِ } فوصفٌ له معتبرٌ في ثاني الحال بناءً على وصفه الأول الذي هو المعيارُ له ولِما بعده من الطعام والصيام، فحقُّهما أن يُعطفا على الوصف المفارِق لا على الوصف اللازم فضلاً عن العطف على الموصوف كما سيأتي بإذن الله تعالى. ومما يرشدك إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل: { يَحْكُمُ بِهِ } أي بمثل ما قتل { ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } أي حكَمان عادلان من المسلمين لكنْ لا لأن التقويمَ هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد من العُدول دون الأشياء المشاهدةَ التي يستوي في معرفتها كلُّ أحد من الناس، فإن ذلك ناشىء من الغفلةِ عما أرادوا بما به المماثلة، بل لأن ما جعلوه مدار المماثلة بـين الصيد وبـين النَّعم من ضربِ مشاكَلةٍ ومضاهاة في بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التبايُن بـينهما في بقية الأحوال مما لا يَهتدي إليه، من أساطينِ أئمة الاجتهاد، وصناديدِ أهل الهداية والإرشاد، إلا المؤيدون بالقوة القدسية، ألا يُرى أن الإمام الشافعي رضي الله عنه أوجب في قتل الحمامة شاةً بناء على ما أثبتَ بـينهما من المماثلة من حيث أن كلاًّ منهما يعُبّ ويهدِر، مع أن النسبة بـينهما من سائر الحيثيات كما بـين الضّبّ والنون، فكيف يُفوَّضُ معرفةُ أمثالِ هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدْلين من آحاد الناس؟ على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص، فبعد ما عُيِّن، بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد، نوعٌ من أنواع النعم يتم الحُكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجةٌ إلى حكمٍ أصلاً. وقرىء (يحكم به ذو عدل) على إرادة جنس العادل دون الوَحْدة، وقيل: بل على إرادة الإمام، والجملة صفة لجزاءٌ أو حال منه لتخصصه بالصفة، وقوله تعالى: { هَدْياً } حال مقدرة من الضمير في (به)، أو في (جزاء) لما ذكر من تخصصه بالصفة، أو بدلٌ من (مثل) فيمن نصبه، أو مِنْ محله فيمن جرَّه، أو نصبٌ على المصدر أي يهديه هدياً، والجملة صفة أخرى لجزاء.

{ بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ } صفةٌ (لهدياً) لأن الإضافة غير حقيقية { أَوْ كَفَّارَةٌ } عطف على مل (من النعم) على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملةُ صفة ثانية (لجزاء) كما أشير إليه، وقوله تعالى: { طَعَامُ مَسَـٰكِينَ } عطفُ بـيانٍ لكفارةٌ عند من لا يخصصه بالمعارف، أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي طعام مساكين، وقوله تعالى: { أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } عطف على طعام الخ، كأنه قيل: فعليه جزاءٌ مماثلٌ للمقتول هو من النَّعم أو طعامُ مساكينَ أو صيامُ أيامٍ بعددهم، فحينئذ تكون الماثلةُ وصفاً لازماً للجزاء يقدَّر به الهدْي والطعام والصيام، أما الأولان فبلا واسطة، وأما الثالث فبواسطة الثاني، فيختار الجاني كلاًّ منها بدلاً من الآخرَيْن، هذا وقد قيل: إن قوله تعالى: { أَوْ كَفَّارَةٌ } عطف على (جزاء) فلا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدَّر به الطعام والصيام، والالتجاءُ إلى القياس على الهدْي تعسفٌ لا يخفى، هذا على قراءة (جزاء) بالرفع على سائر القراءات، فقوله تعالى: { أَوْ كَفَّارَةٌ } خبر مبتدأ محذوفٍ، والجملة معطوفة على جملة هو (من النعم). وقرىء أو(كفارةُ طعامِ مساكين) بالإضافة لتبـيـين نوع الكفارة وقرىء طعامُ مِسْكين على أن التبـيـين يحصل بالواحد الدال على الجنس وقرىء (أو عِدْل) بكسر العين والفرق بـينهما أن عَدلَ الشيء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعِدْلَه ما عُدِل به في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وذلك إشارة إلى الطعام و(صياماً) تميـيز للعَدْل، والخيار في ذلك للجاني عند أبـي حنيفة وأبـي يوسف رحمهما الله وللحَكَمين عند محمدرحمه الله .

{ لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } متعلق بالاستقرار في الجار والمجرور، أي فعليه جزاءٌ ليذوق الخ، وقيل: بفعل يدل عليه الكلام، كأنه قيل: شرع ذلك عليه ليذوق وبال أمره أي سوءَ عاقبةِ هَتْكه لحُرمة الإحرامِ، والوبال في الأصل: المكروهُ والضررُ الذي ينال في العاقبة مَنْ عمل سوءاً لثِقَله، ومنه قوله تعالى: { { فَأَخَذْنَـٰهُ أَخْذاً وَبِيلاً } [المزمل، الآية16] ومنه الطعام الوبـيلُ وهو الذي لا تستمرِئُه المَعِدة { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف } من قتل الصيد مُحرِماً قبل أن يسألوا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقيل: عما سلف منه في الجاهلية، لأنهم كانوا متعبَّدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرّماً { وَمَنْ عَادَ } إلى قتل الصيد بعد النهي عنه وهو محرم { فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه، ولذلك دخلت الفاء كقوله تعالى: { { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } [الجن، الآية 13] أي فذلك لا يخاف الخ، وقوله تعالى: { { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ } [البقرة: 126] أي فأنا أمتعه، والمراد بالانتقام التعذيبُ في الآخرة، وأما الكفارة فعن عطاءٍ وإبراهيمَ وسعيدِ بن جبـير والحسن أنها واجبة على العائد، وعن ابن عباس رضي الله عنهما وشُريح أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ } غالب لا يُغالَب { ذُو ٱنتِقَامٍ } شديد فينتقم ممن أصر على المعصية والاعتداء.