التفاسير

< >
عرض

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
١٨
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
١٩

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } مَا يرمي بهِ منْ فيه منْ خيرٍ أوْ شرَ وَقُرِىءَ ما يُلْفظُ عَلى البناءِ للمفعولِ { إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ } ملَكٌ يرقبُ قولَه ويكتُبه فإنْ كانَ خَيراً فهو صاحبُ اليمينِ بعينِه وَإِلاَّ فهُوَ صاحبُ الشمالِ ووجْهُ تغيـيرِ العنوانِ غنيٌّ عنِ البـيانِ والإفرادُ معَ وقوفِهما معاً عَلَى ما صَدَرَ عنْهُ لمَا أنَّ كلاً منهُمَا رقيبٌ لما فوضَ إليهِ لا لما فوضَ إلى صاحبِه كما ينبىءُ عنْهُ قولُه تعالَى: { عَتِيدٌ } أيْ معدٌّ مهيأٌ لكتابةِ ما أمرَ بهِ من الخيرِ أو الشرِّ ومنْ لَم يتنبه لَه توهمَ أنَّ معناهُ رقيبانِ عتيدانِ وتخصيصُ القولِ بالذكرِ لإثباتِ الحكمِ في الفعلِ بدلالةِ النصِّ واختلفَ فيمَا يكتبانِه فقيلَ يكتبانِ كُلَّ شيءٍ حَتَّى أنينَهُ في مرضِه وقيلَ إنما يكتبانِ ما فيهِ أجرٌ أو وزرٌ وهو الأظهرُ كَما ينبىءُ عنْهُ قولُه صلى الله عليه وسلم: " "كاتبُ الحسناتِ عَلى يمينِ الرجلِ وكاتبُ السيئاتِ على يسارِه وكاتبُ الحسناتِ أميرٌ عَلى كاتبِ السيئاتِ فإذا عملَ حسنةً كتبَها ملكُ اليمينِ عشراً وإذا عملَ سيئةً قالَ صاحبُ اليمينِ لصاحبِ الشمالِ دَعْهُ سبعَ ساعاتٍ لعلَّه يسبحُ أو يستغفرُ" " .

{ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ } بعدَ ما ذُكرَ استبعادُهُم للبعثِ والجزاءِ وأزيحَ ذلكَ بتحقيقِ قدرتِه تعالَى وعلمِه وبـيَّنَ أنَّ جميعَ أعمالِهم محفوظةٌ مكتوبةً عليهمْ أتبعَ ذلك ببـيانِ ما يلاقونَهُ لا محالةَ منَ الموتِ والبعثِ وما يتفرعُ عليهِ منَ الأحوالِ وَالأهوالِ وقد عبرَ عنْ وقوعِ كُلَ منَها بصيغةِ الماضِي إيذاناً بتحققِهَا وغايةِ اقترابِها، وسكرةُ الموتِ شدتُهُ الذاهبةُ بالعقلِ والباءُ إمَّا للتعديةِ كَما في قولكَ جاءَ الرسولُ بالخبرِ والمَعْنى أحضرتْ سكرةُ الموتِ حقيقة الأمرِ والذَّي نطقتْ بهِ كتبُ الله ورسلُه أوْ حقيقةَ الأمرِ وجليةَ الحالِ منْ سعادةِ الميتِ وشقاوتِه، وقيلَ الحقُّ الذي لاَ بدَّ أنْ يكونَ لا محالةَ منَ الموتِ أوِ الجزاءِ فإنَّ الإنسانَ خُلِقَ لَهُ وإما للملابسةِ كالتي في قولهِ تَعالَى: { { تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [سورة المؤمنون، الآية 20] أيْ ملتبسةً بِالحقِّ أيْ بحقيقةِ الأمرِ أو بالحكمةِ والغايةِ الجميلةِ وَقُرىءَ سكرةُ الحقِّ بالموتِ وَالمَعْنى أنَّها السكرةُ التي كُتبتْ عَلَى الإنْسَانِ بموجبِ الحِكْمةِ وأنَّها لشدتِها توجبُ زُهُوقَ الروحِ أوْ تستعقبُه وقيلَ الباءُ بمعَنْى مَعَ وقيلَ سكرةُ الحقِّ سكرةُ الله تَعالىَ عَلى أنَّ الإضافةَ للتهويلِ وقُرِىءَ سَكَراتُ الموتِ { ذٰلِكَ } أي الموتُ { مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أيْ تميلُ وتنفِرُ عَنْهُ والخطابُ للإنسانِ فإنَّ النفرةَ عنْهُ شاملةٌ لكُلِّ فردٍ منْ أفرادِهِ طَبْعاً.