التفاسير

< >
عرض

عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ
١٥
إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ
١٦
مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ
١٧
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ
١٨
أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ
١٩
وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٢٠
أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ
٢١
-النجم

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } أي الجنةُ التي يأوِي إليها المتقونَ أو أرواحُ الشهداءِ، والجملةُ حاليةٌ، وقيلَ: الأحسنُ أن يكونَ الحالُ هُو الظرفَ وجنةُ المَأْوى مرتفعٌ به على الفاعليةِ. وقولُه تعالى: { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } ظرفُ زمانٍ لرآهُ لا لِما بعَدُه من الجملةِ المنفيةِ كما قيلَ: فإنَّ مَا النافيةَ لا يعملُ ما بعدَها فيما قبلَها، والغشيانُ بمعنى التعظيةِ والسترِ ومنه الغَوَاشِي أو بمَعْنى الإتيانِ يقالُ فلانٌ يغشَانِي كلَّ حينٍ، أيْ يأتينِي، والأولُ هو الأليقُ بالمقامِ وفي إبهامِ ما يغشَى من التفخيمِ ما لا يخفى، وتأخيرُه عن المفعولِ للتشويقِ إليهِ أي ولقد رآهُ عندَ السدرةِ وقتَ غشِيَها ما غشِيَها مما لا يكتنههُ الوصفُ ولا يَفي به البـيانُ كيفاً ولا كمَّاً. وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ استحضاراً لصورتِها البديعةِ وللإيذانِ باستمرار الغشيانِ بطريقِ التجددِ وقيلَ: يغشاهَا الجمُّ الغفيرُ من الملائكةِ يعبدونَ الله تعالَى عندَها، وقيلَ: يزورُونها متبرّكينَ بها كما يزورُ الناسُ الكعبةَ وقيلَ: يغشاهَا سبحاتُ أنوارِ الله عزَّ وجلَّ حين يتجلَّى لها كما تجلَّى للجبلِ لكنها كانتْ أقوى من الجبلِ وأثبتَ حيثُ لم يُصبْها ما أصابَهُ من الدكِّ وقيلَ: يغشاهَا فَراشٌ أو جرادٌ من ذهبٍ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ وابن مسعودٍ والضحَّاكِ. ورُويَ عنِ النبـيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: "رأيتُ السدرةَ يغشاها فَراشٌ من ذهبٍ ورأيتُ على كلِّ ورقةٍ مَلَكاً قائماً يُسبحُ الله تعالَى" ، وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ "يغشاهَا رفرف من طيرٍ خُضرٍ" . { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ } أي ما مالَ بصرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عما رآهُ { وَمَا طَغَىٰ } وما تجاوزُه مع ما شاهدَ هناكَ من الأمورِ العجيبةِ المُذهلةِ ما لا يُحصَى بل أثبتَهُ إثباتاً صحيحاً مُتيقناً أو ما عدلَ عن رؤيةِ العجائبِ التي أُمرَ برؤيتِها ومُكنَ منَها وما جاوزَها.

{ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءايَـٰتِ رَبّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } أيْ والله لقدْ رَأَى الآياتِ التي هي كُبراهَا وعُظماهَا حين عُرجَ به إلى السماءِ فأُرِيَ من عجائبِ الملكِ والملكوتِ ما لا يحيطُ به نطاقُ العبارةِ، ويجوزُ أنْ تكونَ الكُبرى صفةً للآياتِ والمفعولُ محذوفٌ أي شيئاً عظيماً من آياتِ ربِّه وأن تكونَ مِنْ مزيدةً.

{ أَفَرَءيْتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلْعُزَّىٰ وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } هي أصنامٌ كانتْ لهم، فاللاتُ كانتْ لثقيفٍ بالطائفِ وقيلَ لقريشٍ بنخلةَ. وهيَ فعَلة من لَوَى لأنَّهم كانُوا يلوُون علَيها ويطوفُونَ بها. وقُرِىءَ بتشديدِ التاءِ على أنَّه اسمُ فاعلٍ اشتُهِرَ به رجلٌ كانَ يلتُّ السمنَ بالزيتِ ويطعمُه الحاجَّ وقيلَ كان يلتُّ السويقَ بالطائفِ ويطعمُه الحاجَّ فلمَّا ماتَ عكفُوا على قبرِه يعبدونَهُ وقيلَ كانَ يجلسُ على حجرٍ فلما ماتَ سُمِّيَ الحجرُ باسمِه وعُبدَ منْ دونِ الله وقيلَ: كانَ الحجرُ على صورتِه. والعُزَّى تأنيثُ الأعزِّ كانتْ لغطفانَ وهي سَمُرةً كانُوا يعبدونَها فبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بنَ الوليدِ فقطعَها فخرجتْ منَها شيطانةٌ ناشرةً شعرَها واضعةً يدَها على رأسِها وهي تُولْوِلُ فجعلَ خالدٌ يضربُها بالسيفِ حتى قتلَها فأخبرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: "تلكَ العُزَّى ولنْ تُعبد أبداً" . ومناةُ صخرةٌ لهُذَيلٍ وخُزاعةَ وقيلَ لثقيفٍ وكأنَّها سميتْ مناةَ لأنَّ دماءَ النسائِكَ تُمْنَى عندَها أي تُراقُ. وقُرىءَ ومناءة وهي مفعلة من النَّوءِ كأنَّهم كانُوا يستمطرونَ عندَها الأنواءَ تبركاً بها، و(الأُخْرى) صفةُ ذمٍ لهَا وهي المتأخرةُ الوضيعةُ المقدارِ. وقدْ جُوِّزَ أنْ تكونَ الأوليةَ والتقدمَ عندهم للاتِ والعُزَّى. ثمَّ أنَّهم كانُوا معَ ما ذُكِرَ من عبادتِهم لها يقولونَ إنَّ الملائكةَ وتلكَ الأصنامَ بناتُ الله تعالَى الله عن ذلكَ عُلواً كبـيراً فقيلَ لهم توبـيخاً وتبكيتاً أفرأيتُم الخ. والهمزةُ للإنكارِ، والفاءُ لتوجيهه إلى ترتيب الرؤيةِ على ما ذُكِرَ من شؤونِ الله تعالى المنافيةِ لها غايةَ المُنافاةِ، وهي قلبـيةٌ ومفعولُها الثَّانِي محذوفٌ لدلالةِ الحال عليهِ فالمَعْنى أعَقيبَ ما سمعتُم من آثارِ كمالِ عظمةِ الله عزَّ وجلَّ في مُلكِه وملكوتِه وجلالِه وجبروتِه وإِحكامِ قدرتِه ونفاذِ أمرِه في الملأ الأَعْلى وما تحتَ الثَّرى وما بـينهما رأيتُم هذهِ الأصنامَ مع غايةِ حقارتِها وقماءتِها بناتٍ له تعالَى وقيلَ المعَنْى أفرأيتُم هذِه الأصنامَ مع حقارتِها وذلَّتِها شركاءَ الله تعالَى معَ ما تقدمَ من عظمتِه وقيلَ أخبرونِي عن آلهتِكم هلْ لهَا شيءٌ من القُدرةِ والعظمةِ التي وُصفَ بها ربُّ العزةِ في الآي السابقةِ وقيلَ المَعْنى أظننتُم أنَّ هذه الأصنامَ التي تعبدونها تنفعُكم وقيل أظننتُم أنَّها تشفعُ لكُم في الآخرةِ وقيل أفرأيتُم إلى هذهِ الأصنامِ إنْ عبدتُموها لا تنفعْكُم وإنْ تركتُموَها لا تضرَّكم والأولُ هو الحقُّ كما يشهدُ به قولُه تعالَى:

{ أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنثَىٰ } شهادةٌ بـينةً فإنَّه توبـيخٌ مبنيٌّ على التوبـيخِ الأولِ وحيثُ كانَ مدارُه تفضيلَ جانبِ أنفسِهم على جنابهِ تعالى بنسبتِهم إليه تعالى الإناثَ مع اختيارِهم لأنفسِهم الذكورَ وجبَ أن يكون مناطُ الأولِ نفسَ تلك النسبةِ حتَّى يتسنَّى بناءُ التوبـيخِ الثانِي عليهِ، وظاهرٌ أنْ ليسَ في شيءٍ من التقديراتِ المذكورةِ من تلكَ النسبةِ عينٌ ولا أثرٌ وأما ما قيلَ من أنَّ هذه الجملةَ مفعولٌ ثانٍ للرؤيةِ وخلوُّها عن العائدِ إلى المفعولِ الأولِ لما أنَّ الأصلَ أخبرونِي أن اللاتَ والعُزَّى ومناةَ ألكُم الذكرُ وله هُنَّ أي تلكَ الأصنامُ فوضعَ موضَعها الأُنثى لمراعاةِ الفواصلِ وتحقيقِ مناطِ التوبـيخِ فمعَ ما فيه من التمحلاتِ التي ينبغي تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثالها يقتضِي اقتصارَ التوبـيخِ على ترجيحِ جانبِهم الحقير على جنابِ الله العزيز الجليلِ من غيرِ تعرضٍ للتوبـيخِ على نسبةِ الولدِ إليه سبحانَهُ.