التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
٤
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ
٥
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ
٦
خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ
٧
مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
٨
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ
٩
-القمر

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلَقَدْ جَاءهُمْ } أي في القُرانِ. وقولُه تعالَى: { مّنَ ٱلأَنبَاء } أي أنباءِ القرونِ الخاليةِ أو أنباءِ الآخرةِ، متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ مما بعدَهُ أيْ وبالله لقد جاءهُم كائناً من الأنباءِ { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي ازدجارٌ من تعذيبٍ أو وعيدٍ، أو موضعُ ازدجارٍ على أنَّ في تجريديةٌ والمَعْنى أنَّه في نفسِه موضعُ ازدجارٍ، وتاءُ الافتعالِ تقلبُ دالاً مع الدالِ والذالِ والزَّاي للتناسبِ وقُرِىءَ مُزَّجَرٌ بقلبِها زاء وإدغامِها { حِكْمَةٌ بَـٰلِغَةٌ } غايتَها لا خللَ فَيها وهي بدلٌ منْ مَا أو خبرٌ لمحذوفٍ. وقُرِىءَ بالنصبِ حالاً منَها فإنَّها موصولةٌ أو موصوفةٌ تخصصتْ بصفتِها فساغَ نصبُ الحالِ عنها. { فَمَا تُغْنِـى ٱلنُّذُرُ } نفيٌ للإغناءِ، أو إنكارٌ لهُ. والفاءُ لترتيبِ عدمِ الإغناءِ على مجيءِ الحكمةِ البالغةِ مع كونِه مظنَّة للإغناءِ وصيغةُ المُضارعِ للدلالةِ على تجددِ عدمِ الإغناءِ واستمرارِه حسبَ تجددِ مجيءِ الزواجرِ واستمرارِه، وما على الوجهِ الثانِي منصوبةٌ أي فأيُّ إغناء تُغني النذرُ وهو جمعُ نذيرٍ بمعنى المنذرِ أو مصدرٌ بمَعْنى الإنذارِ.

{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } لعلمكَ بأنَّ الإنذارَ لا يُؤثرُ فيهم البتةَ { يَوْمَ يَدْعُو ٱلدَّاعِ } منصوبٌ بـيخرُجونَ أو باذكُرْ. والدَّاعِي إسرافيلُ عليهِ السَّلامُ ويجوزُ أنْ يكونَ الدعاءُ فيهِ كالأمرِ في قولِه تعالى: { { كُنْ فَيَكُونُ } [سورة آل عمران، الآية 59] وإسقاطُ الياءِ للاكتفاءِ بالكسرِ تخفيفاً { إِلَىٰ شَىْء نُّكُرٍ } أي منكرٍ فظيعٍ تنكرُه النفوسُ لعدمِ العهدِ بمثلِه وهو هَولُ القيامةِ وقُرِىءَ نُكْرٍ بالتخفيفِ ونكر بمَعْنى أنكر { خُشَّعاً أَبْصَـٰرُهُمْ } حالٌ من فاعلِ { يُخْرِجُونَ } والتقديمُ لأنَّ العاملَ متصرفٌ أي يخرجونَ { مّنَ ٱلأَجْدَاثِ } أذلةً أبصارُهم من شدةِ الهولِ وقُرِىءَ خاشعاً والإفرادُ والتذكيرُ لأنَّ فاعلَه ظاهرٌ غيرُ حقيقيِّ التأنيثِ. وقُرِىءَ خاشعةً على الأصلِ، وقُرِىءَ خُشَّعٌ أبصارُهم عَلَى الابتداءِ والخبرِ على أنَّ الجملةَ حالٌ { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } في الكثرةِ والتموجِ والتفريقِ في الأقطارِ { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ } مسرعينَ مادِّي أعناقِهُم إليهِ أو ناظرينَ إليهِ { يَقُولُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } استئنافٌ وقعَ جواباً عمَّا نشأَ من وصفِ اليومِ بالأهوالِ وأهلِه بسوءِ الحالِ كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ حينئذٍ فقيلَ يقولُ الكافرونَ { هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } أي صعبٌ شديدٌ، وفي إسنادِ القولِ المذكورِ إلى الكفارِ تلويحٌ بأنَّ المؤمنينَ ليسُوا في تلكَ المرتبةِ من الشدةِ { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } شروعٌ في تعدادِ بعضِ ما ذُكِرَ منَ الأنبـياءِ الموجبةِ للازدجارِ، ونوعُ تفصيلٍ لها وبـيانٌ لعدمِ تأثرِهم بها تقريراً لفحْوَى قولِه تعالى: { { فَمَا تُغْنِـى ٱلنُّذُرُ } [سورة القمر، الآية 5] أي فعلَ التكذيبَ قبلَ تكذيبِ قومِك قومُ نوحٍ وقولُه تعالَى: { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } تفسيرٌ لذلكَ التكذيبِ المبهمِ كما في قولِه تعالى: { { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ } [سورة هود، الآية 45] الخ، وفيه مزيدُ تقريرٍ وتحقيقٍ للتكذيبِ وقيلَ: معناهُ كذَّبوه تكذيباً إثرَ تكذيبٍ كلَما خَلاَ منهم قرنٌ مكذبٌ جاءَ عقيبَه قرنٌ آخر مكذبٌ مثلُه.

وقيلَ: كذبتْ قومُ نوحٍ الرسلَ فكذبُوا عبدنَا لأنَّه من جُملتِهم وفي ذِكرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعنوانِ العبوديةِ مع الإضافةِ إلى نونِ العظمةِ تفخيمٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ورفعٌ لمحلِّه وزيادةُ تشنيعٍ لمكذبـيهِ { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ } أي لم يقتصرُوا على مجردِ التكذيبِ بل نسبُوه إلى الجنونِ { وَٱزْدُجِرَ } عطفٌ على قالُوا أي وزُجِرَ عن التبليغِ بأنواعِ الأذيةِ وقيلَ: هو من جُملةِ ما قالُوه أي هُو مجنونٌ وقد ازدجرتْهُ الجِنُّ وتخبطتهُ.