التفاسير

< >
عرض

يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ
٤١
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٤٢
هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ
٤٣
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ
٤٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٤٥
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ
٤٦
-الرحمن

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وقولُه تعالَى:

{ يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـٰهُمْ } استئنافٌ يَجْرِي مَجْرى التعليلِ لعدمِ السؤالِ، قيلَ: يُعرفونَ بسوادِ الوجوهِ وزرقةِ العُيونِ، وقيلَ: بما يعلُوهم منِ الكآبةِ والحُزنِ { فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِى وَٱلأَقْدَامِ } الجارُّ والمجرورُ هُو القائمُ مقامَ الفاعلِ، يُقَالُ أخذَهُ إِذَا كانَ المأخوذُ مقصوداً بالأخذِ، ومنه قولُه تعالى: { { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } [سورة النساء، الآية 71] ونحُوه. وأخذَ بهِ إذَا كانَ المأخوذُ شيئاً من ملابساتِ المقصودِ بالأخذِ منه قولُه تعالى: { { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى } [سورة طه، الآية 94] وقولُ المستغيثِ خُذْ بـيدِي أخذَ الله بـيدِك. أيْ يُجمعُ بـين نواصِيهم وأقدامِهم في سلسلةٍ من وراءِ ظُهورِهم، وقيلَ: تسحبُهم الملائكةُ، تارةً تأخذُ بالنَّواصِي وتارةً تأخذُ بالأقدامِ. { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ }. وقولُه تعالَى:

{ هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِى يُكَذّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } على إرادةِ القولِ، أيْ يقالُ لهُم ذلكَ بطريقِ التوبـيخِ على أنَّ الجملةَ إمَّااستئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤالٍ ناشىءٍ من حكايةِ الأخذِ بالنَّواصِي والأقدامِ، كأنَّه قيلَ: فماذا يفعلُ بهِم عندَ ذلكَ فقيلَ يقالُ إلخ. أو حالٌ من أصحابِ النواصِي والأقدامِ، لأنَّ الألفَ واللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ وما بـينَهما اعتراضٌ. { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا } أي بـينَ النَّارِ يُحرقُون بَها { وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } ماءٍ بالغٍ من الحرارةِ أقصَاها يُصبُّ عليهم أو يُسقون منْهُ، وقيلَ: إذَا استغاثُوا من النارِ أغيثُوا بالحميمِ. { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } وقد أُشيرَ إلى سرِّ كونِ بـيانِ أمثالِ هذه الأمورِ من قبـيلِ الآلاءِ مِرَاراً.

{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } شروعٌ في تعدادِ الآلاءِ الفائضةِ عليهم في الآخرةِ بعدَ تعدادِ ما وصلَ إليهم في الدُّنيا من الآلاءِ الدينيةِ والدنيويةِ واعلمْ أنَّ ما عُدِّدَ فيمَا بـينَ هذه الآيةِ وبـين خاتمةِ السورةِ والكريمةِ من فنونِ الكراماتِ كَما أنَّ أنفسَها آلاءٌ جليلةٌ واصلةٌ إليهمْ في الآخرةِ، كذلكَ حكاياتُها الواصلةُ إليهم في الدُّنيا آلاءٌ عظيمةٌ لكونِها داعيةً لهم إلى السَّعِي في تحصيلِ ما يُؤدِّي إلى نيلِها منَ الإيمانِ والطَّاعةِ وأنَّ ما فُصِّلَ من فاتحةِ السُّورةِ الكريمةِ إلى قولِه تعالى: { { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } [سورة الرحمن، الآية 29] من النعمِ الدينيةِ والدنيويةِ والأنفسيةِ والآفاقيةِ آلاءٌ جليلةٌ واصلةٌ إليهم في الدُّنيا وكذلكَ حكاياتُها منْ حيثُ إيجابُها للشكرِ والمثابرةِ على ما يُؤدِّي إلى استدامتِها، وأمَّا مَا عُدِّدَ فيمَا بـينَ قولِه تعالى سنفرغُ لكُم وبـين هذهِ الآيةِ من الأحوالِ الهائلةِ التي ستقعُ في الآخرةِ فليستْ هيَ من قبـيلِ الآلاءِ وإنَّما الآلاءُ حكاياتُها الموجبةُ للانزجارِ عمَّا يُؤدِّي إلى الإبتلاءِ بَها من الكفرِ والمعاصِي كَما أُشيرَ إليهِ في تضاعيفِ تعدادِها. ومقامُه تعالَى موقفُه الذي يقفُ فيه العبادُ للحسابِ يومَ يقومُ النَّاسُ لربِّ العالمينَ، أو قيامُه تعالَى على أحوالِه من قامَ عليهِ إذا راقبَهُ، أو مقامُ الخائفِ عندَ ربِّه للحسابِ بأحدِ المعنيـينَ. وإضافتُه إلى الربِّ للتفخيمِ والتهويلِ أو هو مقحمٌ للتعظيمِ.

{ جَنَّتَانِ } جنةٌ للخائفِ الإنسيِّ وجنةُ للخائفِ الجنيِّ فإنَّ الخطابَ للفريقينِ فالمَعْنى لكلِّ خائفينِ منكُما أو لكُلِّ واحدٍ جنةٌ لعقيدتِه وأُخرى لعملهِ، أو جنةٌ لفعلِ الطاعاتِ وأُخرى لتركِ المعاصِي، أو جنةٌ يثابُ بَها وأُخرى يتفضلُ بها عليهِ أو روحانيةٌ وجسمانيةٌ وكذا ما جَاء مَثْنى بعدُ