التفاسير

< >
عرض

أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ
١١
فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
١٢
ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ
١٣
وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ
١٤
-الواقعة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وقولُه تعالى { أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى السابقينَ، وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ مع قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الفضل ومحلُّه الرفعُ على الابتداءِ، خبرُهُ ما بعدَهُ أَيْ أولئكَ الموصوفونَ بذلكَ النعتِ الجليلِ { ٱلْمُقَرَّبُونَ } أي الذينَ قُرّبتْ إلى العرشِ العظيمِ درجاتُهم وأعليتْ مراتبهُم ورُقِّيتْ إلى حظائرِ القدسِ نفوسُهم الزكيةُ هذا أظهرُ ما ذُكِرَ في إعرابِ هذه الجملِ وأشهرُه والذي تقتضيِه جزالةُ التنزيلِ أنَّ قولَه تعالَى: { { فَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ } [سورة الواقعة، الآية 8] خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، وكذَا قولُه تعالى: { { وَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْـئَمَةِ } [سورة الواقعة، الآية 9] وقولُه تعالَى: { { وَٱلسَّـٰبِقُونَ } [سورة الواقعة، الآية 10] فإن المترقَّبَ عند بـيانِ انقسامِ الناسِ إلى الأقسامِ الثلاثةِ بـيانُ أنفَسِ الأقسامِ الثلاثةِ وأمَّا أوصافُها وأحوالُها فحقُّها أنْ تبـينَ بعد ذلكَ بإسنادِها إليها، والتقديرُ فأحدُها أصحابُ الميمنةِ والآخرُ أصحابُ المشأمةِ والثالثُ السابقونَ، خَلاَ أنَّه لما أُخرَ بـيانُ أحوالِ القسمينِ الأُوليينِ عُقّبَ كلٌّ منهُما بجملةٍ معترضةٍ بـين القسمينِ منبئةٍ عن تَرَامي أحوالِهما في الخيرِ والشرِّ إنباءً إجمالياً مشعراً بأنَّ لأحوالِ كلَ منهُمَا تفصيلاً مترقباً لكنْ لا على أنَّ مَا الاستفهاميةَ مبتدأٌ وما بعدها خبرٌ على ما رآهُ سيبويهِ في أمثالِه بلْ على أنَّها خبرٌ لما بعدَها فإنَّ مناطَ الإفادةِ بـيانُ أنَّ أصحابَ الميمنةِ أمرٌ بديعٌ كما يفيدهُ كونُ ما خبر إلا بـيانُ أنَّ أمراً بديعاً أصحابُ الميمنةِ كما يفيدُه كونُها مبتدأً وكذا الحالُ في ما أصحابُ المشأمة وأما القسمُ الأخيرُ فحيثُ قُرنَ بـيانُ محاسنِ أحوالِه بذكِره لم يُحتجْ فيهِ إلى تقديمِ الأنموذجِ فقولُه تعالى السابقونَ مبتدأٌ والإظهارُ في مقامِ الإضمارِ للتفخيمِ وأولئكَ مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأولِ وما بعدَهُ خبرٌ له أو للثانِي والجملةُ خبرٌ للأولِ. وقولُه تعالى: { فِي جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ } متعلقٌ بالمقربونَ أو بمضمرٍ هو حالٌ من ضميرِه أي كائنين في جنَّاتِ النعيمِ وقيلَ خبرٌ ثانٍ لاسمِ الإشارةِ وفيه أنَّ الإخبارَ بكونهم فيها بعد الإخبارِ بكونِهم مقربـين ليس فيه مزيدُ مزيةٍ وقُرِىءَ في جنةِ النعيمِ.

وقولُه تعالى: { ثُلَّةٌ مّنَ ٱلأَوَّلِينَ } خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُم أمةٌ جمةٌ من الأولينَ، وهم الأممُ السالفةُ من لدنِ آدم إلى نبـيِّنا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وعَلى من بـينهُمَا منَ الأنبـياءِ العظامِ. { وَقَلِيلٌ مّنَ ٱلآخِرِينَ } أي من هذه الأمةِ ولا يخالُفه قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إنَّ أمتِي يكثرونَ سائرَ الأممِ" فإنَّ أكثريةَ سابقي الأممِ السالفةِ من سابقي هذه الأمة لا تمنعُ أكثريةَ تابعي هؤلاءِ من تابَعي أولئكَ، ولا يردُّه قولُه تعالى: في أصحابِ اليمينِ { { ثلةٌ من الأَولينَ وثلةٌ من الآخرينَ } [سورة الواقعة، الآية 39، 40] لأنَّ كثرةَ كلَ من الفريقينِ في أنفسِهما لا تُنافِي أكثريةَ أحدِهما من الآخرِ وسيأتِي أن الثلثينِ من هذهِ الأمةِ وقد رُويَ مرفوعاً أن الأولينَ والآخرينَ ههنا أيضاً متقدمُو هذه الأمةِ ومتأخرُوهم واشتقاقُ الثلةِ من الثِّل وهو الكسرُ.