التفاسير

< >
عرض

يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ
١٤
فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٥
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
١٦
-الحديد

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يُنَـٰدُونَهُمْ } استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا يفعلونَ بعد ضربِ السُّورِ ومشاهدةِ العذابِ فقيلَ يُنادونَهم { أَلَمْ نَكُن } في الدُّنيا { مَّعَكُمْ } يريدونَ به موافقتَهم لهُم في الظَّاهرِ { قَالُواْ بَلَىٰ } كنتُم معنَا بحسبِ الظاهرِ { وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } محنتمُوها بالنفاقِ وأهلكتمُوها { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالمؤمنينَ الدوائرَ { وَٱرْتَبْتُمْ } في أمرِ الدِّينِ { وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِىُّ } الفارغةُ التي من جُمْلتها الطمعُ في انتكاس أمرِ الإسلامِ { حَتَّىٰ جَاء أَمْرُ ٱللَّهِ } أي الموتُ { وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ } الكريمِ { ٱلْغُرُورِ } أي غرَّكُم الشيطانُ بأنَّ الله عفوٌّ كريمٌ لا يُعذبكم. وقُرِىءَ الغُرورُ بالضمِّ { فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } فداءٌ وقُرىءَ تُؤخذُ بالتاءِ { وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي ظاهراً وباطناً { مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } لا تبرحُونَها أبداً { هِىَ مَوْلَـٰكُمْ } أي أَوْلَى بكُم وحقيقتُه مكانُكُم الذي يُقالُ فيهِ هو أَوْلى بكُم كما يقالُ هو مِئْنةُ الكرمِ أي مكانٌ لقولِ القائلِ إنَّه لكريمٌ أو مكانُكم عن قريبٍ من الولِي وهو القُربُ أو ناصركُم على طريقةِ قولِه:

[وخيلٌ قد دلفتُ لها بخيلٍ] تحيَّةُ بـينِهم ضَربٌ وَجِيْعُ

أو متوليكُم تتولاَّ كم كَما توليتُم موجباتِها { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي النَّارُ. { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } استئنافٌ ناعٍ عليهم تثاقلَهُم في أمورِ الدِّينِ ورخاوةِ عقدِهم فيها واستبطاءٌ لانتدابِهم لما نُدبوا إليهِ بالترغيبِ والترهيبِ. ورُويَ أنَّ المؤمنينَ كانُوا مُجْدبـين بمكةَ فلمَّا هاجرُوا أصابُوا الرزقَ والنعمةَ وفترُوا عمَّا كانُوا عليهِ فنزلتْ. وعن ابن مسعودٍ رضيَ الله عنْهُ: ما كانَ بـينَ إسلامِنا وبـينَ أنْ عُوتبنا بهذهِ الآيةِ إلا أربعُ سنينَ. وعنِ ابنِ عبّاسٍ رضيَ الله تعالَى عنُهمَا أنَّ الله استبطأَ قلوبَ المؤمنينَ فعاتَبهُم على رأسِ ثلاثَ عشرةَ سنةً من نزولِ القُرآنِ أيْ ألم يجىءْ وقتُ أنْ تخشعَ قلوبُهم لذكرِه تعالَى وتطمئنَ به ويسارعُوا إلى طاعتِه بالامتثال بأوامره والانتهاءِ عمَّا نُهوا عنهُ منْ غير توانٍ ولا فتورٍ منْ أنى الأمرُ إذَا جاءَ أناهُ أي وقته. وقُرِىءَ ألم يئِنْ من آنَ يئينُ بمعنى أنَى، وقُرِىءَ ألمَّا يأنِ، وفيهِ دلالةٌ على أنَّ المنفَي متوقعٌ. { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقّ } أي القرآنِ وهو عطفٌ على ذكرِ الله فإنْ كانَ هُو المرادَ به أيضاً فالعطفُ لتغايرِ العُنوانينِ فإنَّه ذكرٌ وموعظةٌ كما أنَّه حقٌّ نازلٌ منَ السماءِ، وإلاَّ فالعطفُ كما في قولِه تعالى: { { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً } [سورة الأنفال، الآية 2] ومَعْنى الخشوعِ له الانقيادُ التامُّ لأوامره ونواهيِه والعكوفُ على العملِ بما فيهِ من الأحكامِ التي من جُمْلتها ما سبقَ وما لحقَ من الإنفاقِ في سبـيلِ الله تعالى. وقُرِىءَ نزل من التنزيلِ مبنياً للفاعلِ وأنزلَ { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلُ } عطفٌ على تخشعَ. وقُرِىءَ بالتاءِ على الالتفاتِ؛ للاعتناءِ بالتحذيرِ، وقيلَ: هو نهيٌ عن مماثلةِ أهلِ الكتابِ في قسوةِ القلوبِ بعد أنْ وبخوا وذلك أنَّ بني إسرائيلَ كانَ الحقُّ يحولُ بـينَهُم وبـينَ شهواتِهم وإذَا سمعُوا التوراةَ والإنجيلَ خشعُوا لله ورقَّتْ قلوبُهم { فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ } أي الأجلُ. وقُرِىءَ الأمدُّ بتشديدِ الدالِ، أي الوقتُ الأطولُ وغلبهم الجفاءُ وزالتْ عنْهم الروعةُ التي كانتْ تأتيهُم من الكتابـينِ { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } فهيَ كالحجارةِ أو أشدُّ قسوةً { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ } أي خارجونَ عن حدودِ دينهم رافضونَ لما في كتابِهم بالكُلِّيةِ.