التفاسير

< >
عرض

وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨
هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
٩
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١٠
-الحديد

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وقولُه عزَّ وجلَّ: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } استئنافٌ مسوقٌ لتوبـيخِهم على ترك الإيمانِ حسبَما أمروا به بإنكارِ أنْ يكونَ لَهمُ في ذلك عذرٌ ما في الجملةِ على أنَّ لا تؤمنونَ حالٌ من الضميرِ في لكُم والعاملُ ما فيه من مَعْنى الاستقرارِ أيْ أيُّ شيءٍ حصلَ لكُم غيرَ مؤمنينَ، على توجيه الإنكارِ والنفي إلى السببِ فقطْ مع تحقيق المسببِ لا إلى السببِ والمسببِ جميعاً كَما في قولِه تعالى: { { وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِى فَطَرَنِى } [سورة يس، الآية 22] فإنَّ همزةَ الاستفهامِ كَما تكونُ تارةً لإنكارِ الواقعِ كَما في أتضربُ أباكَ وأخرى لإنكار الوقوعِ كما في أأضربُ أبـي كذلكَ ما الاستفهاميةُ قد تكونُ لإنكارِ سببِ الواقعِ ونفيهِ فقطْ كما فيما نحنُ فيهِ وفي قولِه تعالى: { { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [سورة نوح، الآية 13] فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ محُققاً فإنَّ كلاً من عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرجاءِ أمرٌ محققٌ قد أنكرَ ونفيَ سببُه وقد تكونُ لإنكارِ سببِ الوقوعِ ونفيهِ فيسريانِ إلى المسببِ أيضاً كَما في قولِه تعالى: { { وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ } [سورة يس، الآية 22] إلى آخرهِ فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ مفروضاً قطعاً فإنَّ عدمَ العبادةِ أمرٌ مفروضٌ حتماً قد أنكرَ ونُفيَ سببُه فانتفَى نفسُه أيضاً. وقوله تعالى:

{ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ } حالٌ من ضميرِ لا تُؤمنون مفيدةٌ لتوبـيخِهم على الكُفرِ معَ تحققِ ما يُوجبُ عدمَهُ بعدَ توبـيخِهم عليهِ مع عدمِ ما يُوجبه، أيْ وأيُّ عذرٍ في تركِ الإيمانِ والرسولُ يدعُوكم إليهِ وينبهكم عليهِ. وقولُه تعالى: { وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـٰقَكُمْ } حالٌ من مفعولِ يدعُوكم أيْ وقد أخذَ الله تعالَى ميثاقَكُم بالإيمانِ من قبلُ وذلك بنصب الأدلةِ والتمكينِ من النظرِ. وقُرىءَ وقَدْ أُخذَ مبنياً للمفعولِ برفعِ ميثاقكُم { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لموجبِ ما فإنَّ هذَا موجبٌ لا موجبَ وراءَهُ. { هُوَ ٱلَّذِى يُنَزّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ } حسبَما يعنُّ لكُم منَ المصالحِ { ءَايَـٰتٍ بَيّنَاتٍ } واضحاتٍ { لِيُخْرِجَكُمْ } أي الله تعالَى أو العبدُ بها { مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ } من ظلمات الكفرِ إلى نور الإيمانِ { وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } حيثُ يهديكُم إلى سعادةِ الدارينِ بإرسالِ الرسولِ وتنزيلِ الآياتِ بعد نصبِ الحُججِ العقليةِ.

وقولُه تعالَى: { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } توبـيخٌ لهم على تركِ الإنفاقِ المأمورِ به بعدَ توبـيخِهم على ترك الإيمانِ بإنكار أنْ يكونَ لهم في ذلكَ أيضاً عذرٌ من الأعذارِ. وحذفُ المفعولِ لظهورِ أنَّه الذي بُـيِّنَ حالُه فيما سبقَ وتعيـينُ المُنفَقِ فيهِ لتشديدِ التوبـيخِ، أيْ وأيُّ شيءٍ لكُم في أنْ لا تنفقُوا فيمَا هُو قربةٌ إلى الله تعالَى ما هُو له في الحقيقةِ وإنَّما أنتُم خلفاؤُه في صرفِه إلى ما عيَّنهُ من المصارفِ. وقولُه: { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } حالٌ من فاعلِ لا تنفقُوا ومفعولِه مؤكدةٌ للتوبـيخِ فإنَّ تركَ الإنفاقِ بغير سببٍ قبـيحٌ منكرٌ ومع تحقق ما يوجبُ الإنفاقَ أشدُّ في القبحِ وأدخلُ في الإنكارِ، فإنَّ بـيانَ بقاءِ جميعِ ما في السمواتِ والأرضِ من الأموالِ بالآخرةِ لله عزَّ وجلَّ من غيرِ أنْ يبقَى من أصحابِها أحدٌ أقوى في إيجابِ الإنفاقِ عليهم من بـيان أنَّها لله تعالى في الحقيقةِ وهم خُلفاؤه في التصرف فيها كأنَّه قيلَ وما لكُم في ترك إنفاقِها في سبـيلِ الله والحالُ أنَّه لا يبقَى لكُم منها شيءٌ بل تَبْقى كلُّها لله تعالَى، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ وتربـية المهابةِ. وقولُه تعالى: { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَـٰتَلَ } بـيانٌ لتفاوت درجاتِ المنفقينِ حسبَ تفاوتِ أحوالِهم في الإنفاقِ بعدَ بـيانِ أنَّ لهم أجراً كبـيراً على الإطلاقِ حثَّاً لهم على تحرِّي الأفضلِ، وعطفُ القتالِ على الإنفاقِ للإيذانِ بأنَّه من أهمِّ موادِّ الإنفاقِ مع كونِه في نفسِه من أفضلِ العباداتِ وأنه لا يخلُو من الإنفاقِ أصلاً. وقسيمُ مَنْ أنفقَ محذوفٌ لظهورِه ودلالةِ ما بعدَهُ عليهِ وقُرىءَ قبلَ الفتحِ بغير مِنْ والفتحُ فتحُ مكَة { أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى مَنْ أنفقَ والجمعُ بالنظرِ إلى مَعْنى مَنْ كما أنَّ أفرادَ الضميرينِ السابقينِ بالنظرِ إلى لفظِها، وما فيهِ من مَعْنى البُعد مع قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعدِ منزلتِهم وعلوِّ طبقاتِهم في الفضلِ، ومحلُّه الرفعُ على الابتداءِ أي أولئكَ المنعوتونَ بذينكَ النعتينِ الجميلينِ { أَعْظَمُ دَرَجَةً } وأرفعُ منزلةً { مّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَـٰتَلُواْ } لأنَّهم إنما فعلُوا ما فعلُوا من الإنفاق والقتالِ قبل عزةِ الإسلامِ وقوةِ أهلِه عند كمالِ الحاجةِ إلى النصرة بالنفسِ والمالِ وهم السابقونَ الأولونَ من المهاجرينَ والأنصارِ الذينَ قالَ فيهم النبـيُّ صلى الله عليه وسلم: "لو أنفقَ أحدُكم مثلَ أحدٍ ذهباً ما بلغَ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَهُ" وهؤلاءِ فعلُوا ما فعلُوا بعد ظهورِ الدينِ ودخولِ الناسِ فيه أفواجاً وقلةِ الحاجةِ إلى الإنفاقِ والقتالِ { وَكُلاًّ } أي وكلَّ واحدٍ من الفريقينِ { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي المثوبةَ الحُسنى وهي الجنةُ لا الأولينَ فقطْ. وقُرِىءَ وكلٌّ بالرفعِ على الابتداءِ أي وكلٌّ وعدَهُ الله تعالَى { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } بظواهرِه وبواطنهِ فيجازيكُم بحسبِه وقيلَ نزلتْ الآيةُ في أبـي بكرٍ رضيَ الله تعالَى عنه فإنَّه أولُ مَنْ آمنَ وأولُ من أنفقَ في سبـيلِ الله وخاصمَ الكفَّارَ حتى ضُربَ ضرباً أشرفَ به على الهلاكِ.