التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
٢
وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٣
-المجادلة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وَقَوْلُه تَعَالَى: { ٱلَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ } شروعٌ في بـيانِ شأنِ الظهارِ في نفسِهِ وحكمِه المترتبُ عليه شَرْعاً بطريقِ الاستئنافِ والظهارُ أنْ يقولَ الرجلُ لامرأتِهِ أنتِ عليَّ كظهرِ أُمِّي مشتقٌ منَ الظهرِ وَقدْ مرَّ تفصيلُهُ في الأحزابِ وألحقَ بهِ الفقهاءُ تشبـيهَهَا بجزءٍ مُحرمٍ. وَفي منكُمْ مزيدُ توبـيخٍ للعربِ وتهجينٌ لعادتهمْ فيه فإنَّهُ كانَ منْ أيمانِ أهلِ جاهليتهِمْ خَاصَّة دونَ سائرِ الأممِ وَقُرىءَ يُظّاهرونَ منْ اظّاهرَ ويظَاهرونَ ويظْهرونَ وقولُه تَعَالَى: { مَّا هُنَّ أُمَّهَـٰتِهِمْ } خبرٌ للموصولِ أَيْ ما نساؤُهُم أمهاتُهُم عَلَى الحقيقةِ فهُوَ كذبٌ بحتٌ وَقَرىءَ أمهاتُهم بالرفعِ عَلى لُغةِ تميمٍ وبأمهاتِهم { إِنْ أُمَّهَـٰتِهِمْ } أيْ مَا هُنَّ { إِلاَّ ٱللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ } فَلاَ تشبَّهُ بهنَّ فِي الحُرمةِ إِلا منْ ألحقَهَا الشرعُ بهنَّ منَ المرضعاتِ وأزواجِ النبـيَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فدخلنَ بذلكَ في حُكمِ الأمهاتِ وَأمَّا الزوجاتُ فأبعدُ شيءٍ منَ الأُمومةِ { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ } بقولِهم ذلكَ { مُنكَراً مّنَ ٱلْقَوْلِ } عَلى أنَّ مناطَ التأكيدِ ليسَ صدورَ القولِ عنْهمْ فإنَّه أمرٌ محققٌ بلْ كونَهُ منكراً أيْ عندَ الشرعِ وعند العقلِ والطبعِ أيضاً كما يشعرُ بهِ تنكيره ونظيرُهِ قَولُهُ تعالَى إنكُمْ لتقولونَ قولاً عظيماً { وَزُوراً } أيْ محرفاً عنِ الحَقِّ { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أيْ مبالغٌ في العفو والمغفرةِ فيغفرُ لمَا سلفَ منْهُ عَلَى الإطلاقِ أَوْ بالمتابِ عنْهُ وقولُه تَعَالَى: { وَٱلَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } تفصيلٌ لحكمِ الظهارِ بعدَ بـيانِ كونِهِ أمراً منكراً بطريقِ التشريعِ الكليِّ المنتظمِ لحكمِ الحادثةِ انتظاماً أولياً أيْ والذينَ يقولونَ ذلكَ القولَ المنكرَ ثمَّ يعودونَ لما قالُوا أَيْ إِلى مَا قالُوا بالتداركِ والتلافِي لاَ بالتقريرِ والتكريرِ كَما في قولِه تَعَالَى: { { أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } [سورة النور، الآية 17] فإِنَّ اللامَ وإِلى تتعاقبان كَثيراً كَما في قولِهِ تَعَالى: { { هَدَانَا لِهَـٰذَا } [سورة الأعراف، الآية 43] وقولِهِ تَعَالَى: { { فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرٰطِ ٱلْجَحِيمِ } [سورة الصافات، الآية 23] وقوله تعالى: { { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [سورة الزمر، الآية 5] وقوله تعالى: { { وَأُوحِىَ إِلَىٰ نُوحٍ } }. [سورة هود، الآية 36]

{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي فتداركُهُ أو فعليهِ أوْ فالواجبُ إعتاقُ رقبةٍ أيَّ رقبةٍ كانتْ وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله تَعَالَى يشترطُ الإيمانُ، والفاءُ للسببـيةِ ومن فوائدِها الدلالةُ على تكررِ وجوبِ التحريرِ بتكررِ الظهارِ وَقيلَ: (ما قالُوا) عبارةٌ عَمَّا حرَّمُوهُ عَلى أنفسِهمْ بلفظِ الظهارِ تنزيلاً للقولِ منزلةَ المقُولِ فيهِ كَما ذُكرَ في قولِهِ تَعَالَى: { { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [سورة مريم، الآية 80] أَي المقولُ فيهِ منَ المالِ والولدِ فالمَعْنَى ثُمَّ يريدونَ العودَ للاستمتاعِ فتحريرُ رقبةٍ { مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } أيْ مِنْ قبلِ أنْ يستمتعَ كلٌ منَ المُظاهِرِ وَالمُظاهَرِ منْهَا بالآخرِ جماعاً وَلَمساً ونظراً إلى الفرجِ بشهوةٍ وإنْ وقعَ شيءٌ من ذلكَ قبلَ التكفيرِ يجبُ عليهِ أنْ يستغفرَ ولا يعودَ حتَّى يكفرَ وإنْ أعتقَ بعضَ الرقبةِ ثمَّ مسَّ عليهِ أنْ يستأنفَ عندَ أبـي حنيفةَ رحمَهُ الله تَعَالَى { ذٰلِكُمْ } إشارةٌ إِلى الحكمِ المذكورِ وَهُوَ مبتدأٌ خبرُهُ { تُوعَظُونَ بِهِ } أيْ تزجرونَ بهِ عنِ ارتكابِ المنكرِ المذكورِ فإنَّ الغراماتِ مزاجرٌ عنْ تعاطِي الجناياتِ والمرادُ بذكرِهِ بـيانُ أنَّ المقصودَ منْ شرعِ هَذَا الحكمِ ليسَ تعريضكُمْ للثوابِ بمباشرتكُمْ لتحريرِ الرقبةِ الذِي هُوَ علمٌ في استتباعِ الثوابِ العظيمِ بلْ هُوَ ردعُكم وزجرُكم عنَ مباشرةِ ما يوجبُهُ { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } منَ الأعمالِ التي منْ جُملتِها التكفيرُ ومَا يوجبُهُ من جنايةِ الظهارُ { خَبِيرٌ } أَيْ عالمٌ بظواهِرِهَا وبواطِنَها ومجازيكُم بهَا فحافظُوا على حدود ما شرعَ لكُمْ وَلاَ تُخلُّوا بشيءٍ منْهَا.