التفاسير

< >
عرض

كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
١٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
١٩
-الحشر

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

قولُه تعالى: { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } فإنَّه خبرٌ ثانٍ للمبتدأ المقدرِ مبـينٌ لحالِهِم متضمنٌ لحالٍ أُخْرَى لليهودِ وهي اغترارُهم بمقالةِ المنافقينَ أولاً وخيبتُهُم آخِراً وقد أُجْمِلَ في النظمِ الكريمِ، حيثُ أُسنِدَ كلٌّ من الخبرينِ إلى المقدرِ المضافِ إلى ضميرِ الفريقينِ منْ غير تعيـينِ ما أُسْنِدَ إليهِ بخصوصِهِ ثقةً بأنَّ السامعَ يردُّ كلاً من المثلينِ إلى ما يماثلُهُ كأنَّهُ قيلَ مثلُ اليهودِ في حلولِ العذابِ بهم كمثلِ الذينَ منْ قبلِهِم الخ. ومثلُ المنافقينَ في إغرائِهِم إيَّاهُم على القتالِ حسبما نُقِلَ عنهُم كمثلِ الشيطانِ { إِذْ قَالَ لِلإِنسَـٰنِ ٱكْفُرْ } أيْ أغراهُ على الكفرِ إغراءِ الآمرِ المأمورَ على المأمورِ بهِ { فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ } وقُرِىءَ أنا بريءٌ منكَ. إنْ أريدَ بالإنسانِ الجنسُ فهذَا التبرؤُ منَ الشيطانِ يكونُ يومَ القيامةِ كما ينبىءُ عنْهُ قولُهُ تعالى { إِنّى أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وإنْ أُرِيدَ بهِ أبو جهلٍ، فقولُهُ تعالى: { ٱكْفُرْ } عبارةٌ عنْ قولِ إبليسِ يومَ بدرٍ { { لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } [سورة الأنفال، الآية 48] وتبرؤه قولُه يومئذٍ { { إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ إِنّي أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ ٱللَّهَ } [سورة الأنفال، الآية 48] الآيةَ { فَكَانَ عَـٰقِبَتَهُمَا } بالنصبِ على أنَّهُ خبرُ كانَ واسمُهَا { أَنَّهُمَا فِى ٱلنَّارِ } وقرىءَ بالعكسِ وقد مرَّ أنه أوضحُ { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } وقُرِىءَ خالدانِ فيها عَلى أنه خبرُ أنَّ وفي النارِ لغوٌ { وَذَلِكَ جَزَاء ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي الخلودُ في النارِ جزاءُ الظالمينَ على الإطلاقِ دونَ هؤلاءِ خاصَّة.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي في كلِّ ما تأتونَ وما تذرونَ { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } أيْ أيُّ شيءٍ قدمَتْ من الأعمالِ ليومِ القيامةِ عبرَ عنْهُ بذلكَ لدنوِّهِ أو لأن الدنيا كيومٍ والآخرةُ هي غَدُهُ وتنكيرُهُ لتفخيمِه وتهويلِه كأنه قيلَ لغدٍ لا يُعرفُ كنهُهُ لغايةِ عظمِه، وأما تنكيرُ نفسٍ فلاستقلالِ الأنفسِ النواظرِ فيما قدَّمن لذلكَ اليومَ الهائلِ، كأنه قيلَ ولتنظُر نفسٌ واحدةٌ في ذلكَ.

{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } تكريرٌ للتأكيدِ، أو الأولُ في أداءِ الواجباتِ كما يُشعرُ به ما بعدَهُ من الأمرِ بالعملِ، وهذا في تركِ المحارمِ كما يُؤذنُ بهِ الوعيدُ بقولِهِ تعالَى: { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي من المعاصِي { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ } أي نَسُوا حقوقَهُ تعالَى وما قدرُوه حقَّ قدرِهِ ولم يراعُوا مواجبَ أوامرِهِ ونواهِيه حقَّ رعايتِهَا { فَأَنسَـٰهُمْ } بسببِ ذلكَ { أَنفُسِهِمْ } أي جعلَهُم ناسينَ لها حتَّى لم يسمعُوا ما ينفعُها ولم يفعَلُوا ما يخلِّصُهَا أو أراهُم يومَ القيامةِ من الأهوالِ ما أنساهُم أنفسَهُم { أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } الكاملونَ في الفسوقِ.