التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
١٠
قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ
١١
قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢
-الأنعام

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه، وفي تصدير الجملة بلام القسم وحرفِ التحقيق من الاعتناء به ما لا يخفى، وتنوينُ (رسل) للتفخيم والتكثير، و(من) ابتدائية متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لرسل، أي وبالله لقد استهزىء برسل أولي شأنٍ خطيرٍ وذوي عددٍ كثير كائنين من زمانٍ قبلَ زمانك، على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامَه { فَحَاقَ } عَقيبه أي أحاط أو نزل أو حلَّ أو نحوُ ذلك، فإن معناه يدور على الشمول واللزوم، ولا يكاد يُستعمل إلا في الشر، والحَيْق ما يشتمل على الإنسان من مكروهِ فِعْلِه وقوله تعالى: { بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ } أي استهزأوا بهم من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق، وتقديمُه على فاعله الذي هو قوله تعالى: { مَّا كَانُوا بِهِ } للمسارعة إلى بـيان لحوق الشر بهم، و(ما) إما موصولةٌ مفيدةٌ للتهويل، أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزؤون به حيث أُهلكوا لأجله، وإما مصدريةٌ أي فنزل بهم وَبالُ استهزائهم، وتقديم الجار والمجرور على الفعل لرعاية الفواصل.

{ قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } بعد بـيانِ ما فعلت الأممُ الخالية وما فُعل بهم خوطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإنذار قومه، وتذكيرِهم بأحوالهم الفظيعة تحذيراً لهم عما هم عليه، وتكملةً للتسلية بما في ضِمْنه من العِدَة اللطيفة بأنه سيَحيقُ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم الأولين، ولقد أنجَز ذلك يومَ بدرٍ أيَّ إنجازٍ، أي سيروا في الأرض لتعرِفوا أحوال أولئك الأمم { ثُمَّ ٱنْظُرُواْ } أي تفكروا { كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ } وكلمة (ثم) إما لأن النظر في آثار الهالكين لا يتسنّى إلا بعد انتهاء السير إلى أماكنهم، وإما لإبانة ما بـينهما من التفاوت في مراتب الوجوب وهو الأظهر، فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلةً إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء في قوله عز وجل: { فَٱنظُرُواْ } [سورة آل عمران: الآية 137] الآية، وإما أن الأمر الأول لإباحة السير للتجارة ونحوها، والثاني لإيجاب النظر في آثارهم، و(ثم) لتُباعِدَ ما بـين الواجب والمباح فلا يناسب المقام، و(كيف) معلِّقةٌ لفعل النظر، ومحلُ الجملة النصبُ بنزع الخافض أي تفكروا في أنهم كيف أُهلكوا بعذاب الاستئصال، والعاقبة مصدرٌ كالعافية ونظائرِها، وهي منتهىٰ الأمرِ ومآلُه، ووضعُ المكذبـين موضعَ المستهزئين لتحقيق أن مدارَ إصابةِ ما أصابهم هو التكذيبُ لينزجِرَ السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط، مع بقاء التكذيب بحاله بناءً على توهُّم أنه المدار في ذلك.

{ قُلْ } لهم بطريق الإلجاء والتبكيت { لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْض } من العقلاء وغيرِهم، أي لمن الكائناتُ جميعاً خلْقاً ومُلكاً وتصرّفاً؟ وقوله تعالى: { قُل لِلَّهِ } تقريرٌ لهم وتنبـيهٌ على أنه المتعيَّنُ للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتّى لأحد أن يُجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان، الآية 25] وقوله تعالى: { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } جملةٌ مستقلة داخلة تحت الأمر ناطقةٌ بشمول رحمتِه الواسعةِ لجميع الخلق شمولَ مُلكِه وقدرته للكلِّ، مَسوقةٌ لبـيانِ أنه تعالى رؤوفٌ بعباده لا يعجَلُ عليهم بالعقوبة بل يقبل منهم التوبةَ والإنابةَ، وأن ما سبق ذكرُه وما لحِقَ من أحكام الغضب ليس من مقتَضيَات ذاتِه تعالى، بل من جهة الخَلْق، كيف لا ومن رحمتِه أن خلقَهم على الفطرة السليمة وهداهم إلى معرفته وتوحيدِه بنَصْب الآياتِ الأنفسية والآفاقية، وإرسالِ الرسل، وإنزالِ الكُتب المشحونة بالدعوة إلى موجباتِ رِضوانِه، والتحذيرِ عن مقتَضيَات سُخْطِه، وقد بدّلوا فطرةَ الله تبديلاً، وأعرَضوا عن الآياتِ بالمرة، وكذّبوا بالكتب واستهزأوا بالرسل، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين، ولولا شمولُ رحمتِه لسلك بهؤلاءِ أيضاً مَسلكَ الغابرين. ومعنى كتب على نفسه الرحمة أنه تعالى قضاها وأوجبها بطريق التفضُّل والإحسانِ على ذاته المقدّسةِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ أصلاً، وقيل: هو ما رُوي عن أبـي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لمَّا قضى الله تعالى الخلقَ كتَبَ في كتابٍ فهو عنده فوق العرش، إنَّ رحمتي غلبتْ غضبـي" .

وعن عمرَ رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب: ما أولُ شيءٍ ابتدأه الله تعالى مِنْ خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتاباً لم يكتبْه بقلم ولا مِدادٍ كتابةَ الزَّبَرْجد واللؤلؤ والياقوت: إني أنا الله لا إلٰه إلا أنا سبقت رحمتي غضبـي" ومعنى سبْقِ الرحمةِ وغَلَبتِها أنها أقدمُ تعلُّقاً بالخلق وأكثرُ وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذاتِ المُفضيةِ للخير، وفي التعبـير عن الذات بالنفس حجةٌ على من ادّعى أن لفظَ النفسِ لا يُطلق على الله تعالى وإن أريد به الذاتُ إلا مشاكلةً لِما ترَى من انتفاءِ المشاكلة هٰهنا بنَوْعَيْها، وقوله تعالى: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } جوابُ قسمٍ محذوف، والجملة استئنافٌ مسوقٌ للوعيد على إشراكهم وإغفالِهم النظرَ، أي والله ليجمعنّكم في القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شِرْككم وسائرِ معاصيكم وإن أمهلكم بموجَب رحمتِه ولم يعاجِلْكم بالعقوبة الدنيوية وقيل: (إلى) بمعنى اللام، أي ليجمعنكم ليوم القيامة كقوله تعالى: { { إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } [آل عمران، الآية 9] وقيل: هي بمعنى في أي ليجمعنكم في يوم القيامة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في اليوم أو في الجمع.

وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } أي بتضيـيع رأسِ مالهم وهو الفطرةُ الأصليةُ والعقلُ السليم والاستعدادُ القريبُ الحاصلُ من مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام، واستماعِ الوحْي وغيرِ ذلك من آثار الرحمة، في موضع النصْب أو الرفعِ على الذم أي أعني الذين الخ، أو هو مبتدأ والخبر قوله تعالى: { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } والفاء لتضمُّن المبتدأ معنى الشرط، والإشعارُ بأن عدمَ إيمانهم بسبب خُسرانهم، فإن إبطالَ العقل باتباع الحواسِّ والوهم والانهماك في التقليد، وإغفالِ النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر، والامتناعِ من الإيمان. والجملةُ تذيـيلٌ مَسوقٌ من جهته تعالى لتقبـيح حالهم غيرُ داخلٍ تحت الأمر.