التفاسير

< >
عرض

مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ
١٦
وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ
١٧
وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ
١٨
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
١٩
-الأنعام

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ } على البناء للمفعول أي العذاب، وقرىء على البناء للفاعل والضمير لله سبحانه، وقد قرىء بالإظهار، والمفعول محذوف وقوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ } ظرف للصرف، أي في ذلك اليوم العظيم، وقد جوز أن يكون هو المفعول على قراءة البناء للفاعل بحذف المضاف أي عذاب يومئذ { فَقَدْ رَحِمَهُ } أي نجاه وأنعم عليه وقيل: فقد أدخله الجنة كما في قوله تعالى: { { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [آل عمران، الآية 185] والجملة مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ لتهويل العذاب، وضميرُ عنه ورَحمه (لمن)، وهو عبارة عن غير العاصي { وَذَلِكَ } إشارة إلى الصرف أو الرحمة، لأنها مؤوّلة بأن مع الفعل وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجته، وبعد مكانه في الفضل، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى: { ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } أي الظاهرُ كونُه فوزاً وهو الظَفَر بالبُغية، والألف واللام لقصره على ذلك.

{ وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ } أي ببليةٍ كمرَض وفقر ونحو ذلك { فَلاَ كَـٰشِفَ لَهُ } أي فلا قادرَ على كشفه عنك { إِلاَّ هُوَ } وحده { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } من صِحةٍ ونعمةٍ ونحو ذلك { فَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدُيرٌ } ومن جملته ذلك، فيقدِرُ عليه فيمسَسْك به ويحفَظْه عليك من غير أن يقدِرَ علي دفعه، أو على رفعه أحدٌ، كقوله تعالى: { فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } [يونس، الآية 107] وحملُه على تأكيد الجوابـين يأباه الفاء.

روي "عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أُهدي للنبـي صلى الله عليه وسلم بغلةٌ أهداها له كسرى، فركِبها بحبْل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بـي ميلاً، ثم التفت إلي فقال: يا غلام فقلت: لبـيك يا رسول الله. فقال: أحفَظِ الله يحفَظْك، احفظ الله تجدْه أمامك، تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرِفْك في الشدة، وإذا سألت فاسألِ الله، وإذا استعنت فاستعنْ بالله، فقد مضىٰ القلمُ بما هو كائن، فلو جَهَدَ الخلائقُ أن ينفعوك بما لم يقضِه الله لك لم يقدِروا عليه، ولو جَهَدوا أن يضروك بما لم يكتُبِ الله عليك ما قدَروا عليه، فإن استطعتَ أن تعملَ بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطِعْ فاصبر، فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن مع الكرْب فرَجاً، وأن مع العسر يسراً" .

{ وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } تصويرٌ لقهره وعلوِّه بالغَلَبة والقُدرة { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ } في كل ما يفعله ويأمر به { ٱلْخَبِيرُ } بأحوال عبادِه وخفايا أمورِهم، واللام في المواضع الثلاثة للقصر.

{ قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً } روي (أن قريشاً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد لقد سألنا عنك اليهودَ والنصارى فزعموا أنْ ليس عندهم ذكرٌ ولا صفةٌ فأرِنا من يشهد لك أنك رسولُ الله فنزلت). (فأيّ) مبتدأ و(أكبرُ) خبره و(شهادة) نُصب على التميـيز وقوله تعالى: { قُلِ ٱللَّهُ } أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بأن يتولَّى الجواب بنفسه، إما للإيذان بتعيُّنه وعدمِ قدرتهم على أن يجيبوا بغيره، أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه لا لتردُّدهم في أنه أكبرُ من كل شيء، بل في كونه شهيداً في هذا الشأن، وقوله تعالى: { شَهِيدٌ } خبرُ مبتدأ محذوف، أي هو شهيد { بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } ويجوز أن يكون (الله شهيد بـيني وبـينكم) هو الجواب، لأنه إذا كان هو الشهيدَ بـينه وبـينهم كان أكبرُ شيءٍ شهادةً شهيداً له عليه الصلاة والسلام، وتكريرُ (البـين) لتحقيق المقابلة { وَأُوحِىَ إِلَىَّ } أي من جهته تعالى { هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ } الشاهدُ بصِحة رسالتي { لأِنذِرَكُمْ بِهِ } بما فيه من الوعيد، والاقتصارُ على ذكر الإنذار لما أن الكلام مع الكفرة { وَمَن بَلَغَ } عطفٌ على ضمير المخاطَبـين أي لأنذركم به يا أهلَ مكةَ وسائرَ مَنْ بلغه من الأسودِ والأحمرِ أو من الثقلَيْن، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومَنْ سيوجد إلى يوم القيامة، وهو دليل على أن أحكام القرآن تعمُّ الموجودين يوم نزولِه ومن سيوجد بَعْدُ إلى يوم القيامة، خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل عند الحنابلة، وبالإجماع عندنا في غير الموجودين وفي غير المكلفين يومئذ كما مر في أول سورة النساء { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ } تقرير لهم مع إنكار واستبعاد { قُل لاَّ أَشْهَدُ } بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صِرْف { قُلْ } تكرير للأمر للتأكيد { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ } أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إلٰه إلا هو { وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } من الأصنام أو من إشراككم.