التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ
٥٥
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
٥٦
قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَٰصِلِينَ
٥٧
-الأنعام

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ } قد مر آنفاً ما فيه من الكلام أي هذا التفصيلَ البديعَ تفصّلُ الآياتِ في صفة أهل الطاعةِ وأهل الإجرام المُصرِّين منهم والأولين { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } بتأنيث الفعلِ بناءً على تأنيث الفاعل وقرىء بالتذكير بناءً على تذكيره فإن السبـيلَ مما يذكر ويؤنث، وهو عطفٌ على علة محذوفةٍ للفعل المذكورِ لم يُقصَدْ تعليلُه بها بعينها وإنما قُصد الإشعارُ بأن له فوائدَ جمّةً من جملتها ما ذُكر، أو علةٌ لفعل مقدرٍ هو عبارة عن المذكور فيكون مستأنَفاً أي ولتستبـين سبـيلَهم نفعلُ ما نفعل من التفصيل. وقرىء بنصب السبـيلَ على أن الفعل متعدَ وتاؤُه للخطاب أي ولتستوضح أنت يا محمد سبـيلَ المجرمين فتعامِلَهم بما يليق بهم.

{ قُلْ إِنّى نُهِيتُ } أُمر عليه الصلاة والسلام بالرجوع إلى مخاطبة المُصِرّين على الشرك إثرَ ما أُمر بمعاملة مَنْ عداهم من أهل الإنذار والتبشيرِ بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعاً لأطماعهم الفارغةِ عن ركونه عليه الصلاة والسلام إليهم، وبـياناً لكون ما هم عليه من الدين هوىً محضاً وضلالاً بحتاً، إني صُرفتُ وزُجِرْت بما نُصب لي من الأدلة وأُنزل علي من الآيات في أمر التوحيد { أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ } أي عن عبادة ما تعبدونه { مِن دُونِ ٱللَّهِ } كائناً ما كان.

{ قُلْ } كَرر الأمرَ مع قرب العهد اعتناءً بشأن المأمور به أو إيذاناً باختلاف المَقولَيْن من حيث إن الأولَ حكايةٌ لِما من جهته تعالى من النهي، والثاني حكايةٌ لما من جهته صلى الله عليه وسلم من الانتهاء عما ذُكر من عبادة ما يعبدونه وإنما قيل: { لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ } استجهالاً لهم وتنصيصاً على أنهم فيما هم فيه تابعون لأهواءَ باطلةٍ وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلاً، وإشعاراً بما يوجب النهيَ والانتهاءَ، وقوله تعالى: { قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً } استئنافٌ مؤكِّد لانتهائه عما نِخيَ عنه مقرِّر لكونهم في غاية الضلال والغَواية، أي إن اتبعتُ أهواءكم فقد ضللت، وقوله تعالى: { وَمَا أَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } عطفٌ على ما قبله، والعدولُ إلى الجملة الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار أي دوامِ النفْي واستمرارِه لا نفْيِ الدوام والاستمرار كما مر مراراً أي ما أنا في شيء من الهدى حين أكون في عِدادهم وقوله تعالى: { قُلْ إِنّى عَلَىٰ بَيّنَةٍ } تحقيقٌ للحق الذي عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبـيانٌ لاتّباعه إياه إثرَ إبطالِ الذي عليه الكَفَرةُ وبـيانِ عدمِ اتباعِه له والبـينةُ الحجةُ الواضحةُ التي تفصِلُ بـين الحق والباطل والمرادُ بها القرآنُ والوحْيُ وقيل: هي الحججُ العقلية أو ما يعمُّها، ولا يساعدُه المقامُ، والتنوينُ للتفخيم، وقولُه تعالى: { مّن رَّبّى } متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ (لبـينة) مؤكّدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، وفي التعرض لعنوان الربوبـية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريفِ ورفعِ المنزلة ما لا يخفى، وقولُه تعالى: { وَكَذَّبْتُم بِهِ } إما جملةٌ مستأنفة أو حاليةٌ بتقدير قد أو بدونه، جيء بها لاستقباح مضمونِها واستبعاد وقوعِه مع تحقق ما يقتضي عدمَه من غاية وضوحِ البـينة، والضميرُ المجرورُ للبـينة، والتذكير باعتبار المعنى المرادِ، والمعنى إني على بـينةٍ عظيمة كائنةٍ من ربـي وكذبتم بها وبما فيها من الأخبار التي من جمتلها الوعيدُ بمجيء العذاب، وقولُه تعالى: { مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } استئنافٌ مبـينٌ لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بها، وهو عدمُ مجيءِ ما وَعد فيها من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم: { مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } [سبأ، الآية 29] بطريق الاستهزاءِ أو بطريق الإلزامِ على زعمهم أي ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعودِ في القرآنِ ـ وتجعلون تأخُّرَه ذريعةً إلى تكذيبه ـ في حُكمي وقدرتي حتى أَجيءَ به وأُظهرَ لكم صِدْقَه، أو ليس أمرُه بمُفوَّضٍ إلي { إِنِ ٱلْحُكْمُ } أي ما الحكمُ في ذلك تعجيلاً وتأخيراً أو ما الحكمُ في جميع الأشياء، فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً { إِلاَ لِلَّهِ } وحده من غير أن يكون لغيره دخْلٌ ما فيه بوجه من الوجوه، وقولُه تعالى: { يَقُصُّ ٱلْحَقَّ } أي يَتْبعُه، بـيانٌ لشؤونه تعالى في الحكم المعهودِ أو في جميع أحكامِه المنتظمةِ له انتظاماً أولياً، أي لا يحكمُ إلا بما هو حقٌّ فيُثبتُ حقيقة التأخير. وقرىء (يقضي) فانتصابُ (الحقَّ) حينئذٍ على المصدرية أي يقضي القضاءَ الحقَّ أو على المفعولية أي يصنعُ الحقَّ ويدبرُه من قولهم: قضىٰ الدِّرعَ إذا صنعها، وأصلُ القضاءِ الفصلُ بتمام الأمرِ، وأصلُ الحُكمِ المنعُ فكأنه يمنعُ الباطل عن معارَضةِ الحقِّ أو الخصمِ عن التعدِّي على صاحبه { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَـٰصِلِينَ } اعتراضٌ تذيـيليٌّ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله، مشيرٌ إلى أن قصَّ الحقِّ هٰهنا بطريق خاصَ هو الفصلُ بـين الحقِّ والباطل، هذا هو الذي تَسْتَدْعيه جزالةُ التنزيلِ. وقد قيل: إن المعنى إني ـ من معرفة ربـي وأنه لا معبود سواه ـ على حجةٍ واضحةٍ وشاهدِ صدقٍ وكذبتم به أنتم حيث أشركتم به تعالى غيرَه. وأنت خبـيرٌ بأن مساقَ النظم الكريمِ فيما سَبق وما لَحِق على وصفهم بتكذيب آياتِ الله تعالى بسبب عدمِ مجيءِ العذاب الموعودِ فيها، فتكذيبُهم به سبحانه في أمر التوحيد مما لا تعلُّقَ له بالمقام أصلاً.