التفاسير

< >
عرض

وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
٧٠
-الأنعام

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ } الذي كُلِّفوه وأُمروا بإقامة مواجبِه { لَعِباً وَلَهْواً } حيث سخِروا به واستهزأوا أو بنَوْا أمرَ دينهم على ما لا يكادُ يتعاطاه العاقلُ بطريق الجِدّ وإنما يصدُر عنه لو صدَر بطريق اللعِبِ واللهوِ كعبادة الأصنام وتحريمِ البحائرِ والسوائبِ ونحوِ ذلك، والمعنى أعرضْ عنهم ولا تُبالِ بأفعالهم وأقوالهم وقيل: هو تهديدٌ لهم كقوله تعالى: { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } [الحجر، الآية 3]، { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا } واطمأنوا بها حتى زعموا أنْ لا حياةَ بعدها أبداً { وَذَكّرْ بِهِ } أي بالقرآنِ من يصلُح للتذكير { أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } أي لئلا تُبْسَلَ كقوله تعالى: { { أَن تَضِلُّواْ } [النساء، الآية 44 ، 176]، أو مخافةَ أن تُبسَل أو كراهةَ أن تبسل نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى: { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } [التكوير، الآية 14] وتُرتَهنَ لسوء عملِها، وأصلُ الإبسالِ والبَسْل المنعُ، ومنه أسد باسلٌ لأن فريستَه لا تُفلت منه أو لأنه ممتنَعٌ، والباسل الشجاع لامتناعه من قِرْنه وهذا بَسْلٌ عليك أي حرام ممنوعٌ وقد جوِّز أن يكون الضميرُ المجرورُ في (به) راجعاً إلى الإبسال مع عدم جريان ذكرِه كما في ضمير الشأن وتكون الجملةُ بدلاً منه مفسِّراً له، لما في الإبهام أولاً والتفسيرِ ثانياً من التفخيم وزيادةِ التقرير كما في قوله: [الطويل]

[على حالةٍ لو أن في القومِ حاتماً] على جودِه لَضَنَّ بالماء حاتمِ

بجرّ حاتم على أنه بدل من ضمير جوده فالمعنى وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت وقوله تعالى: { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } استئنافٌ مَسوقٌ للإخبار بذلك وقيل: في محل النصب على أنه حالٌ من ضمير (كسبت) وقيل: في محل الرفع على أنه وصفٌ (لنفسٌ) والأظهرُ أنه حالٌ من (نفسٌ) فإنه في قوة نفسٌ كافرةٌ أو نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى: { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } و(من دون الله) متعلقٌ بمحذوف هو حال من (وليٌّ) كما بُـيِّن في تفسير قوله تعالى: { وَأَنذِرْ بِهِ } [الأنعام، الآية 51]، وقيل: هو خبرٌ لليس فيكون (لها) حينئذٍ متعلقاً بمحذوفٍ على البـيان { وَإِن تَعْدِلْ } أي إن تَفْدِ تلك النفسُ { كُلَّ عَدْلٍ } أي كلَّ فِداءٍ على أنه مصدرٌ مؤكد { لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا } على إسنادِ الفعلِ إلى الجار والمجرور لا إلى ضمير العدل كما في قوله تعالى: { { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [البقرة، الآية 48] فإنه المَفْدِيُّ به لا المصدرُ كما نحن فيه { أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال، ومحلُه الرفعُ على الابتداء والخبرُ قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ } والجملةُ مستأنفةٌ سيقت إثرَ تحذيرِهم من الإبسال المذكور لبـيان أنهم المبتَلَوْن بذلك أي أولئك المتخِذون دينَهم لعباً ولهواً المغترون بالحياة الدنيا هم الذين أُبسِلوا بما كسبوا، وقولُه تعالى: { لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ } استئناف آخَرُ مُبـينٌ لكيفية الإبسال المذكور وعاقبتِه، مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: ماذا لهم حين أُبسلوا بما كسبوا؟ فقيل: لهم شرابٌ من ماءٍ مغليَ يتجَرْجَرُ في بطونهم وتتقطَّعُ به أمعاؤهم { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } بنار تشتعل بأبدانهم { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا وقد جُوِّز أن يكون (لهم شراب) الخ، حالاً من ضمير (أبسلوا) وترتيبُ ما ذُكر من العذابَـيْن على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضاً حسبما ينْطق به قولُه تعالى: { بِمَا كَسَبُواْ } لأنه العُمدةُ في إيجاب العذاب والأهمُ في باب التحذير، أو أريد بكفرهم ما هو أعمُّ منه ومن مستتْبِعاته من المعاصي والسيئات هذا، وقد جوِّز أن يكون أولئك إشارةً إلى النفوس المدلولِ عليها (بنفسٌ) محلُه الرفعُ بالابتداء والموصولُ الثاني صفتُه أو بدلٌ منه ولهم شراب الخ خبرُه والجملة مَسوقةٌ لبـيان تَبِعةِ الإبسال.