التفاسير

< >
عرض

وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰناً فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٨١
-الأنعام

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وقوله تعالى: { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } استئنافٌ مَسوقٌ لنفي الخوفِ عنه عليه السلام بحسَب زعمِ الكفَرةِ بالطريق الإلزاميِّ كما سيأتي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفسِ الأمر، والاستفهامُ لإنكار الوقوعِ ونفيِه بالكلية، كما في قوله تعالى: { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ } [التوبة، الآية 7]، لا لإنكار الواقعِ واستبعادِه مع وقوعه، كما في قوله: { { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } [البقرة، الآية 28] الخ، وفي توجيه الإنكارِ إلى كيفية الخوفِ من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقالَ أأخافُ لِما أن كلَّ موجود يجب أن يكونَ وجودُه على حال من الأحوال وكيفيةٍ من الكيفيات قطعاً، فإذا انتفىٰ جميعُ أحواله وكيفياتِه فقد انتفىٰ وجودُه من جميع الجهات بالطريق البرهاني، وقوله تعالى: { وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ } حال من ضمير (أخاف) بتقدير مبتدأ والواوُ كافيةٌ في الربط من غير حاجة إلى الضمير العائد إلى ذي الحال، وهو مقرِّرٌ لإنكار الخوفِ ونفيِه عنه عليه السلام ومُفيدٌ لاعترافهم بذلك، فإنهم حيث لم يخافوا في محلِّ الخوف فلأَنْ لا يَخافُ عليه السلام في محل الأمنِ أولى وأحرى، أي كيف أخافُ أنا ما ليس في حيز الخوفِ أصلاً وأنتم لا تخافون غائلةَ ما هو أعظمُ المخلوقات وأهولُها، وهو إشراكُكم بالله الذي ليس كمثله شيءٌ في الأرض ولا في السماء ما هو من جملة مخلوقاته، وإنما عبّر عنه بقوله تعالى: { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ } أي بإشراكه { عَلَيْكُمْ سُلْطَـٰناً } على طريقة التهكّم مع الإيذان بأن الأمورَ الدينية لا يُعوَّل فيها إلا على الحُجة المنزلةِ من عند الله تعالى، وفي تعليق الخوفِ الثاني بإشراكهم من المبالغةِ ومراعاةِ حسنِ الأدب ما لا يخفىٰ.

هذا، وأما ما قيل من أن قوله تعالى: { وَلاَ تَخَافُونَ } الخ، معطوفٌ على أخاف داخل معه في حكم الإنكار والتعجيب فمما لا سبـيلَ إليه أصلاً، لإفضائه إلى فساد المعنى قطعاً، كيف لا وقد عرَّفتُك أن الإنكارَ بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوفِ عنه عليه الصلاة والسلام، ونفي نفيه عنهم، وأنه بـيِّنُ الفساد، وحملُ الإنكارِ في الأول على معنى نفي الوقوعِ وفي الثاني على استبعاد الواقع مما لا مَساغَ له، على أن قوله تعالى: { فَأَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ } ناطقٌ ببُطلانه حتماً، فإنه كلام مرتَّبٌ على إنكار خوفِه عليه الصلاة والسلام في محل الخوف، مَسوقٌ لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه الصلاة والسلام لما هو عليه من الأمن، وبعدم استحقاقِهم لما هم عليه، وإنما جيءَ بصيغة التفضيلِ المُشعِرَةِ باستحقاقهم له في الجملة لاستنزالهم عن رُتبة المكابرةِ والاعتسافِ بسَوْق الكلام على سنن الإنصاف، والمرادُ بالفريقين الفريقُ الآمنُ في محل الأمن والفريقُ الآمنُ في محلِّ الخوف، فإيثارُ ما عليه النظمُ الكريم على أن يُقال فأيُّنا أحقُّ بالأمن أنا أم أنتم؟ لتأكيد الإلجاءِ إلى الجواب الحقِّ بالتنبـيه على علّة الحُكم، والتفادي عن التصريح بتخطئتهم لا لمجردِ الاحترازِ عن تزكية النفس { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } المفعولُ إما محذوفٌ تعويلاً على ظهوره بمعونه المقام، أي إن كنتم تعلمون من أحقُّ بذلك، أو قصداً إلى التعميم أي إن كنتم تعلمون شيئاً، وإما متروكٌ بالمرة، أي إن كنتم مِنْ أوُلي العلم، وجوابُ الشرط محذوفٌ أي فأخبروني.