التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
٨٢
وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
٨٣
-الأنعام

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

.

{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } استئنافٌ من جهته تعالى مبـينٌ للجواب الحقِّ الذي لا محيدَ عنه أي الفريقُ الذين آمنوا { وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ } ذلك أي لم يخلِطوه { بِظُلْمٍ } أي بشركٍ كما يفعلُه الفريقُ المشركون حيث يزعُمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل وأن عبادتَهم للأصنام من تتماتِ إيمانهم وأحكامِه لكونها لأجْل التقريبِ والشفاعة كما قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى } [الزمر، الآية 3] وهذا معنى الخلْطِ { أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى الموصول من حيث اتصافُه بما في حيز الصلة، وفي الإشارة إليه بعدَ وصْفِه بما ذُكر إيذانٌ بأنهم تميَّزوا بذلك عن غيرهم، وانتظموا في سلك الأمورِ المشاهَدة، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعُلوِّ درجتِهم وبُعدِ منزلتهم في الشرف، وهو مبتدأ ثانٍ، وقولُه تعالى: { لَهُمُ ٱلأَمْنُ } جملة من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأ مؤخَّرٍ وقعت خبراً لأولئك، وهو مع خبره خبرٌ للمبتدأ الأول الذي هو الموصول، ويجوز أن يكونَ (أولئك) بدلاً من الموصول أو عطفَ بـيانٍ له، ولهم خبراً للموصول، والأمنُ فاعلاً للظرف لاعتماده على المبتدأ، ويجوز أن يكون لهم خبراً مقدماً، والأمنُ مبتدأً والجملةُ خبراً للموصول، ويجوز أن يكون أولئك مبتدأً ثانياً (لهم) خبره والأمن فاعلاً له، والجملة خبراً للموصول، أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من الإيمان الخالصِ عن شَوْب الشرك لهم الأمنُ فقط { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } إلى الحق، ومَنْ عداهم في ضلال مبـين. روي أنه لما نزلت الآيةُ شقَّ ذلك على الصحابة رضوانُ الله عليهم وقالوا: أينا لم يظْلِمْ نفسه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "ليس ما تظنون، إنما هو ما قال لقمانُ لابنه: يا بني لا تُشرِكْ بالله إن الشرْكَ لظُلم عظيم" وليس الإيمانُ به أن يُصَدِّقَ بوجود الصانعِ الحكيم ويخلِطَ بهذا التصديق الإشراكَ به، وليس من قضية الخلطِ بقاءُ الأصلِ بعد الخلطِ حقيقةً، وقيل: المرادُ بالظلم المعصيةُ التي تُفسِّق صاحبَها، والظاهرُ هو الأولُ لوروده موردَ الجواب عن حال الفريقين.

{ وَتِلْكَ } إشارةٌ إلى ما احتج به إبراهيمُ عليه السلام من قوله تعالى: { { فَلَمَّا جَنَّ } [الأنعام، الآية 76] وقيل: من قوله: { { أَتُحَاجُّونّى } [الأنعام، الآية 80] إلى قوله: { مُّهْتَدُونَ } [الأنعام، الآية 80] وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البُعد لتفخيم شأن المُشار إليه والإشعارِ بعلو طبقته وسموِّ منزلتِه في الفضل، وهو مبتدأ، وقوله تعالى: { حُجَّتُنَا } خبرُه، وفي إضافتها إلى نون العظمة من التفخيم ما لا يخفى، وقوله تعالى: { آتَيْنَاهَا إِبْرٰهِيمَ } أي أرشدناه إليها أو علّمناه إياها في محل النصب على أنه حال من (حجتُنا)، والعاملُ فيها معنى الإشارة كما في قوله تعالى: { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ } [النمل الآية 52] أو في محل الرفع على خبر ثان، أو هو الخبر و(حجتُنا) بدل أو [عطفُ] بـيانٍ للمبتدأ، و(إبراهيمَ) مفعولٌ أولٌ لآتينا قُدِّم عليه الثاني لكونه ضميراً، وقوله تعالى: { عَلَىٰ قَوْمِهِ } متعلِّقٌ بحجتُنا إن جُعل خبراً (لتلك)، أو بمحذوفٍ إن جُعل بدلاً، أي آتينا إبراهيمَ حجةً على قومه، وقيل: بقوله: آتينا { نَرْفَعُ } بنون العظمةِ، وقرىء بالياء على طريقة الالتفات وكذا الفعل الآتي { دَرَجَـٰتٍ } أي رتباً عظيمةً عالية من العلم، وانتصابُها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض، أي إلى درجات أو على التميـيز، والمفعولُ قولُه تعالى: { مَّن نَّشَاء } وتأخيرُه على الوجوه الثلاثة الأخيرةِ لما مر من الاعتناء بالمقدَّم والتشويقِ إلى المؤخَّر، ومفعولُ المشيئة محذوفٌ، أي من نشاء رفعَه حسْبما تقتضيه الحِكمةُ وتستدعيه المصلحةُ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ للدلالة على أن ذلك سُنةٌ مستمرَّة جاريةٌ فيما بـين المُصطَفَيْنَ الأخيارِ غيرُ مختصةٍ بإبراهيمَ عليه السلام، وقرىء بالإضافة إلى (من)، والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها لا محل لها من الإعراب، وقيل: هي في محل النصب على أنها حالٌ من فاعل (آتينا) أي حال كوننا رافعين الخ.

{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } في كل ما فعل من رفْعٍ وخفضٍ { عَلِيمٌ } بحال من يرفعُه واستعدادِه له على مراتبَ متفاوتة، والجملةُ تعليلٌ لما قبلها، وفي وضع الرب ـ مضافاً إلى ضميره عليه السلام موضِعَ نونِ العظمةِ بطريق الالتفاتِ في تضاعيف بـيانِ أحوالِ إبراهيمَ عليه السلام ـ إظهارٌ لمزيد لُطفٍ وعنايةٍ به عليه السلام.