التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٤
مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٥
قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٦
وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٧
قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٨
-الجمعة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ ذٰلِكَ } الذي امتازَ بهِ منْ بـينِ سائرِ الأفرادِ { فَضَّلَ ٱللَّهُ } وأحسانُهُ { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } تفضلاً وعطيةً { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } الذي يُستحقَرُ دُونَهُ نعيمُ الدُّنيا ونعيمُ الآخرةِ.

{ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ } أي عُلِّمُوهَا وكُلِّفُوا العملَ بهَا { ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } أيْ لَمْ يعملُوا بِمَا في تضاعِيفِها منَ الآياتِ التي منْ جُملتِها الآياتُ الناطقةُ بنبوةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم { كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } أيْ كتباً منَ العلمِ يتعبُ بحملِهَا ولا ينتفعُ بهَا، ويحملُ إمَّا حالٌ والعاملُ فيهَا مَعْنَى المَثلِ أو صفةٌ للحمارِ إذْ ليسَ المرادُ بهِ معيناً فهُو في حكمِ النكرةِ كمَا في قولِ مَنْ قالَ:

وَلَقَدْ أمرُّ عَلى اللئيمِ يَسُبُّنِيفمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يعنيني

{ بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ } أيْ بئسَ مثلاً مثلُ القومِ الذينَ كذَّبُوا بآياتِ الله، عَلى أنَّ التميـيزَ محذوفٌ والفاعلَ المُفسَّرَ بهِ مستترٌ. ومثلُ القومِ هُو المخصوصُ بالذمِّ والموصولُ صفةٌ للقومِ. أو بئسَ مثلُ القومِ مثلُ الذينَ كذَّبوا إلخ على أنَّ مثلُ القومِ فاعلُ بئسَ والمخصوصُ بالذمِّ الموصولُ بحذفِ المضافِ أو بئسَ مثلُ القومِ المكذبـينَ مثلُ هؤلاءِ على أنَّ الموصولَ صفةُ القومِ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ وهم اليهودُ الذينَ كذَّبُوا بمَا في التوراةِ من الآياتِ الشاهدةِ بصحةِ نبوةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } الواضعينَ للتكذيبِ في موضعِ التصديقِ أو الظالمينَ لأنفسِهِم بتعريضِهَا للعذابِ الخالِدِ.

{ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُواْ } أَيْ تهودُوا { إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ } كانُوا يقولونَ نحنُ أبناءُ الله وأحباؤُه ويَدَّعُونَ أنَّ الدارَ الآخرةَ لهُمْ عندَ الله خالصةً ويقولونَ لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ منْ كانَ هُوداً فأُمِرَ رسولُ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم بأنْ يقولَ لهُم إظهاراً لكذبِهِمْ إنْ زعمتُم ذلكَ { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ } أيْ فتمنَّوا منَ الله أنْ يميتَكُم وينقُلَكُم منْ دارِ البليةِ إلى دارِ الكرامةِ { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } جوابُهُ محذوفٌ لدلالةِ مَا قبلَهُ عليهِ أيْ إنْ كنتُم صادقينَ في زَعْمِكُم واثقينَ بأنَّه حقٌّ فتمنَّوا الموتَ فإنَّ مَنْ أيقنَ بأنَّهُ مِنْ أهلِ الجنةِ أحبَّ أنْ يتخلصَ إلَيها منْ هذهِ الدارِ التي هيَ قرارةُ الأكدارِ { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً } إخبارٌ بِما سيكونُ منهُم والباءُ في قولِهِ تعالى: { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } متعلقةٌ بما يدلُّ عليهِ النفيُ أيْ يأبونَ التمنِّي بسببِ ما عملُوا من الكفرِ والمعاصِي الموجبةِ لدخولِ النارِ ولما كانتِ اليدُ من بـينِ جوارحِ الإنسانِ مناطَ عامَّةِ أفاعيله عبَّرَ بها تارةً عن النفسِ وأُخرى عنِ القدرةِ { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّـٰلِمينَ } أيْ بهِم، وإيثارُ الإظهارِ على الإظمارِ لذمِّهم والتسجيلِ عليهِم بأنَّهم ظالمونَ في كُلِّ ما يأتونَ وما يذرونَ من الأمورِ التي منْ جُملتِهَا ادعاءُ ما هُمْ عنْهُ بمعزلٍ، والجملةُ تذيـيلٌ لما قبلَها مقررةٌ لمضمونِهِ أيْ عليمٌ بهِم وبِمَا صدَرَ عَنْهُم من فنونِ الظلمِ والمعَاصِي المفضيةِ إلى أفانينِ العذابِ وبِمَا سيكونُ منهُم منَ الاحترازِ عَمَّا يؤدِّي إلى ذلكَ فوقعَ الأمرُ كما ذكرَ فلم يتمنَّ منهُم موتَهُ أحدٌ كَما يعربُ عَنْهُ قولُهُ تعالى:

{ قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ } فإنَّ ذلكَ إنَّما يقالُ لهُم بعدَ ظهورِ فرارِهِم منَ التمنِّي وقدْ قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "لَوْ تمنَّوا لماتُوا منْ ساعتِهِم" وهذهِ إحدَى المعجزاتِ أيْ إنَّ الموتَ الذي تفرونَ منهُ ولا تجسَرونَ عَلى أنْ تتمنَّوهُ مخافةَ أنْ تُؤخذُوا بوبالِ كفرِكُم { فَإِنَّهُ مُلَـٰقِيكُمْ } البتةَ منْ غيرِ صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيهِ والفاءِ لتضمنِ الاسمِ مَعْنَى الشرطِ باعتبارِ الوصفِ وقُرِىءَ بدونِهَا وقُرِىءَ تفرونَ منْهُ مُلاقِيكُم { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ } الذي لا تخفَى عليهِ خافيةٌ { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } منَ الكفرِ والمعاصِي بأنْ يجازيَكُم بهَا.