التفاسير

< >
عرض

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
٣
يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٤
-التغابن

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

مختلف فيها، وآيُها ثماني عشرة

{ يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِى ٱلأَرْضِ } أي ينزهُهُ سبحانَهُ جميعُ ما فيهما من المخلوقاتِ عمَّا لا يليقُ بجنابِ كبريائِه تنزيهاً مُستمراً { لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ } لا لغيرِه إذْ هو المُبدىءُ لكلِّ شيءٍ وهو القائمُ به والمهيمنُ عليهِ وهو المُولِي لأصولِ النعمِ وفروعِها، وأما ملكُ غيرِهِ فاسترعاءٌ من جنابِهِ وحمدُ غيرِه اعتداءٌ بأنَّ نعمةَ الله جرتْ على يدِه { وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } لأن نسبةَ ذاتِهِ المقتضيةَ للقدرةِ إلى الكلِّ سواءٌ { هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ } خلقاً بديعاً حاوياً لجميعِ مبادِي الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ ومع ذلكَ { فَمِنكُمْ كَافِرٌ } أي فبعضُكم أو فبعضٌ منكُم مختارٌ للكفرِ كاسبٌ له على خلافِ ما تستدعيهِ خلقتُه { وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } مختارٌ للإيمانِ كاسبٌ له حسبما تقتضيهِ خلقتُه، وكان الواجبُ عليكم جميعاً أن تكونُوا مختارينَ للإيمانِ شاكرينَ لنعمةِ الخلقِ والإيجادِ وما يتفرعُ عليها من سائرِ النعمِ، فما فعلتُم ذلكَ مع تمامِ تمكنِكُم منهُ بل تشعبتُم شعباً وتفرقتُم فرقاً. وتقديمُ الكفرِ لأنه الأغلب فيما بـينَهُم والأنسبُ بمقامِ التوبـيخِ، وحملُه على مَعْنَى فمنكم كافرٌ مقدرٌ كفرُه موجهٌ إليهِ ما يحملُه عليهِ ومنكُم مؤمنٌ مقدرٌ إيمانُهُ موفقٌ لما يدعُوه إليهِ مما لا يلائمُ المقامَ { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكُم بذلكَ فاختارُوا منه ما يجديكُم من الإيمانِ والطاعةِ، وإياكُم وما يُرديكم من الكفرِ والعصيانِ { خُلِقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقّ } بالحكمةِ البالغةِ المتضمنةِ للمصالحِ الدينيةِ والدنيويةِ { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } حيثُ بَرَأكُم في أحسنِ تقويمٍ وأودعَ فيكُم من القُوى والمشاعرِ الظاهرةِ والباطنةِ ما نيطَ بها جميعُ الكمالاتِ البارزةِ والكامنةِ وزينكُم بصفوةِ صفاتِ مصنُوعاتِهِ وخصَّكُم بخلاصةِ خصائصِ مُبدِعَاتِهِ وجعلَكُم أنموذجَ جميعَ مخلوقاتِهِ في هَذه النشأة { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } في النشأةِ الأُخرى لا إلى غيرِهِ استقلالاً أو اشتراكاً فأحسِنُوا سرائركُم باستعمالِ تلكَ القُوى والمشاعرِ فيما خُلقنَ لَهُ.

{ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } من الأمورِ الكليةِ والجزئيةِ والأحوالِ الجليةِ والخفيةِ { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } أي ما تسرونَهُ فيما بـينَكُم وما تظهرونَهُ من الأمورِ، والتصريحُ بهِ مع اندراجِهِ فيما قبلَهُ لأنَّهُ الذي يدورُ عليهِ الجزاءُ ففيهِ تأكيدٌ للوعدِ والوعيدِ وتشديدٌ لهما وقولُهُ تعالَى: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } اعتراضٌ تذيـيليٌّ مقررٌ لما قبلَهُ من شمولِ علمِهِ تعالَى لسرِّهم وعلنِهِم أي هو محيطٌ بجميعِ المضراتِ المستكنةِ في صدورِ الناسِ بحيثُ لا تفارقُها أصلاً فكيفَ يخفى عليهِ ما يُسرونَهُ وما يُعلنونَهُ، وإظهارُ الجلالةِ للإشعارِ بعلةِ الحكمِ وتأكيدِ استقلالِ الجملةِ. قيلَ وتقديمُ تقريرِ القدرةِ على تقريرِ العلمِ لأنَّ دلالةَ المخلوقاتِ على قدرتِهِ بالذاتِ وعلى علمِهِ بما فيها من الإتقانِ والاختصاصِ ببعضِ الأنحاءِ.