التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ
٢
-الملك

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

مكية، وتسمى الواقية والمنجية لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر، وآيُها ثلاثون

{ تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } البركةُ النماءُ والزيادةُ حسيةً كانتْ أو عقليةً، وكثرةُ الخيرِ ودَوامُهُ أيضاً، ونسبتُهَا إلى الله عزَّ وجلَّ على المَعْنَى الأولِ وهُو الأليقُ بالمقامِ باعتبارِ تعاليهِ عمَّا سواهُ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، وصيغةُ التفاعلِ للمبالغةِ في ذلكَ فإنَّ ما لا يتصورُ نسبتُهُ إليهِ تعالَى من الصيغِ كالتكبرِ ونحوِهِ إنَّما تنسبُ إليه سبحانَهُ باعتبارِ غاياتِهَا، وعلى الثَّاني باعتبارِ كثرةِ ما يفيضُ منهُ على مخلوقاتِهِ من فنونِ الخيراتِ، والصيغةُ حينئذٍ يجوزُ أن تكونَ لإفادةِ نماءِ تلكَ الخيراتِ وازديادِها شيئاً فشيئاً وآناً فآناً بحسبِ حدوثِهَا أو حدوثِ متعلقاتِهَا، ولاستقلالِهَا بالدلالةِ على غايةِ الكمالِ وإنبائِها عن نهايةِ التعظيمِ لم يجُزْ استعمالُهَا في حقِّ غيرِه سبحانَهُ، ولا استعمالُ غيرِهَا من الصيغِ في حقِّه تباركَ وتعالَى. وإسنادُها إلى الموصولِ للاستشهادِ بما في حيزِ الصَّلةِ على تحققِ مضمونِهَا، واليدُ مجازٌ عن القدرةِ التامَّةِ والاستيلاءِ الكاملِ، أي تعالَى وتعاظَم بالذاتِ عن كلِّ ما سواهُ ذاتاً وصفةً وفعلاً الذي بقبضةِ قُدرتِهِ التَّصرفُ الكليُّ في كلِّ الأمورِ. { وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء } منَ الأشياءِ { قَدِيرٌ } مُبالِغٌ في القُدرةِ عليهِ يتصرفُ فيهِ حسبَما تقتضيهِ مشيئتُهُ المبنيةُ على الحِكَمِ البالغةِ. والجملةُ معطوفةٌ على الصِّلةِ مقررةٌ لمضمونِهَا مفيدةٌ لجريانِ أحكامِ مُلكِهِ تعالَى في جَلائلِ الأُمورِ ودقائِقها. وقولُه تعالَى:

{ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ } شروعٌ في تفصيلِ بعضِ أحكامِ المُلكِ وآثارِ القُدرةِ وبـيانِ ابتنائِهِما على قوانينِ الحِكَمِ والمَصالحِ واستتباعِهِما لغاياتٍ جليلةٍ. والموصولُ بدلٌ من الموصولِ الأولِ داخلٌ معهُ في حُكمِ الشهادةِ بتعاليهِ تعالَى. والموتُ عندَ أصحابِنَا صفةٌ وجُوديةٌ مضادةٌ للحياةِ، وأمَّا ما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا منْ أنَّهُ تعالَى خلقَ الموتَ في صُورةِ كبشٍ أملحَ لا يمرُّ بشيءٍ ولا يجدُ رائحَتَهُ شيءٌ إلا ماتُ وخلقَ الحياةَ في صورةِ فرسٍ بَلقاءَ لا تمرُّ بشيءٍ ولا يجدُ رائحتَهَا شيءٌ إلا حَيـي، فكلامٌ واردٌ على منهاجِ التمثيلِ والتصويرِ. وقيلَ هو عدمُ الحياةِ فمعنَى خلقِه حينئذٍ تقديرُهُ أو إزالةُ الحياةِ وأيَّاً ما كانَ فالأقربُ أنَّ المرادَ بهِ الموتُ الطارىءُ وبالحياةِ ما قبلَهُ وما بعدَهُ لظهورِ مداريتِهِما، لما ينطقُ بهِ قولُه تعالَى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فإن استدعاءَ ملاحظتِهِما لإحسانِ العملِ بما لا ريبَ فيهِ معَ أنَّ نفسَ العملِ لا يتحققُ بدونِ الحياةِ الدنيويةِ. وتقديمُ الموتِ لكونِهِ أدعى إلى إحسانِ العملِ، واللامُ متعلقةٌ بخلقَ أي خلقَ موتَكُم وحياتَكُم، على أنَّ الألفَ واللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ ليعاملَكُم معاملةَ مَنْ يختبرُكم أيكُم أحسنُ عملاً فيحازيكُم على مراتبَ متفاوتةٍ حسبَ تفاوتِ طبقاتِ علومِكُم وأعمالِكُم فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعملِ الجوارحِ، ولذلكَ فسَّرَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه: "أيكم أحسنُ عقلاً وأورعُ عن محارمِ الله وأسرعُ في طاعةِ الله" فإنَّ لكلَ من القلبِ والقالبِ عملاً خاصَّاً به، فكَما أنَّ الأولَ أشرفُ من الثَّانِي، كذلكَ الحالُ في عملِهِ، كيفَ لاَ ولا عملَ بدونِ معرفةِ الله عزَّ وجلَّ الواجبةَ على العبادِ أثر ذي أثير وإنما طريقُها النظريُّ التفكرُ في بدائعِ صُنْعِ الله تعالَى والتدبرُ في آياتِه المنصوبةِ في الأنفسِ والآفاقِ، وقَد رُوِيَ عنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ قالَ: "لا تُفضِّلُونِي على يونِسُ بنِ مَتَّى فإنَّهُ كانَ يُرفعُ لهُ كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرضِ" قالُوا وإنَّما كانَ ذلكَ التفكرَ في أمرِ الله عزَّ وجلَّ الذي هُو عملُ القلبِ ضرورةَ أنَّ أحداً لا يقدرُ على أنْ يعملَ بجوارحِهِ كلَّ يومٍ مثلَ عملِ أهلِ الأرضِ. وتعليقُ فعلِ البَلْوَى أي تعقيبُهُ بحرفِ الاستفهامِ لا التعليقُ المشهورُ الذي يقتضِي عدمَ إيرادِ المفعولِ أصلاً مع اختصاصِهِ بأفعالِ القلوبِ لما فيهِ من مَعْنَى العلمِ باعتبارِ عاقبتِهِ كالنظرِ ونظائِره ولذلك أُجرَي مَجْرَاه بطريقِ التمثيلِ، وقيلَ بطريقِ الاستعارةِ التبعيةِ. وإيرادُ صيغةِ التفضيلِ معَ أنَّ الابتلأَ شاملٌ لهم باعتبارِ أعمالِهِم المنقسمةِ إلى الحسنِ والقبـيحِ أيضاً لا إلى الحسنِ والأحسنِ فقطْ للإيذانِ بأنَّ المرادَ بالذاتِ والمقصدِ الأصليَّ من الابتلاءِ هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنينَ مع تحققِ أصلِ الإيمانِ والطاعةِ في الباقينَ أيضاً لكمالِ تعاضدِ الموجباتِ له وأما الإعراضُ عن ذلكَ فبمعزلٍ من الاندراجِ تحتَ الوقوعِ فضلاً عن الانتظامِ في سلكِ الغايةِ للأفعالِ الإلهيةِ وإنَّما هُو عملٌ يصدرُ عن عاملِهِ بسوءِ اختيارِهِ من غيرِ مصححٍ لهُ ولا تقريبٍ وفيهِ من الترغيبِ في الترقِّي إلى معارجِ العلومِ ومدارجِ الطاعاتِ والزجرِ عن مباشرةِ نقائِضِها ما لا يَخْفى { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالبُ الذي لا يفوتُهُ من أساءَ العملَ { ٱلْغَفُورُ } لمن تابَ منهُم.