التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
١٩
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ
٢٠
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ
٢١
-الملك

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } أغفَلوا ولم ينظُروا { إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَــٰفَّـٰتٍ } باسطاتٍ أجنحتهنَّ في الجوِّ عند طيرانِهَا فإنهنَّ إذا بسطنَهَا صفَفنَ قوادِمها صفاً { وَيَقْبِضْنَ } ويضمُمنها إذا ضربنَ بها جنوبهنَّ حيناً فحيناً للاستظهارِ بهِ على التحركِ وهو السرُّ في إيثارِ يقبضنَ الدالِّ على تجددِ القبضِ تارةً بعد تارةٍ على قابضاتٍ { مَا يُمْسِكُهُنَّ } في الجوِّ عند الصفِّ والقبضِ على خلافِ مقتضى الطبعِ { إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } الواسعُ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ بأنْ برأهُنَّ على أشكالٍ وخصائصَ وهيأهُنَّ للجريِ في الهواءِ، والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ من الضميرِ في يقبضنَ { إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ } يعلمُ كيفيةَ إبداعِ المبدعاتِ وتدبـيرِ المصنوعاتِ. وقوله تعالَى:

{ أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } تبكيتٌ لهم بنفي أنْ يكونَ لهم ناصرٌ غيرُ الله تعالَى كما يلوحُ به التعرضُ لعنوانِ الرحمانيةِ ويعضُدهُ قولُه تعالَى: { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } أو ناصرٌ من عذابِهِ تعالَى كما هو الأنسبُ بما سيأتي من قولِه تعالَى: { { إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } [سورة الملك، الآية 21] كقولِهِ تعالَى: { { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا } [سورة الأنبياء، الآية 43] في المعنيـينِ معاً خَلا أنَّ الاستفهامِ هُناكَ متوجهٌ إلى نفسِ المانعِ وتحققهِ وههُنا إلى تعيـينِ الناصرِ لتبكيتِهِم بإظهارِ عجزِهِم عن تعيـينِهِ، وأم منقطعةٌ مقدرةٌ ببل المفيدةِ للانتقالِ من توبـيخِهِم على تركِ التأملِ فيما يشاهدونَهُ من أحوالِ الطيرِ المنبئةِ عن تعاجيبِ آثارِ قدرةِ الله عزَّ وجلَّ إلى التبكيتِ بما ذُكِرَ، والالتفاتُ للتشديدِ في ذلكَ ولا سبـيلَ إلى تقديرِ الهمزةِ معَها لأنَّ ما بعدَهَا مَنْ الاستفهاميةُ وهي مبتدأٌ وهذا خبرُهُ والموصولُ مع صلتِهِ صفتُهُ كما في قولِهِ تعالَى: { { مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ } [سورة البقرة، الآية 255] وإيثارُ هذا لتحقيرِ المشارِ إليهِ. وينصرُكُم صفةٌ لجندٌ باعتبارِ لفظِهِ، ومن دونِ الرحمنِ على الوجهِ الأولِ إما حالٌ من فاعلِ ينصركُم أو نعتٌ لمصدرِهِ وعلى الثاني متعلقٌ بـينصركم كما في قولِهِ تعالَى: { { مَن يَنصُرُنِى مِنَ ٱللَّهِ } [سورة هود، الآية 30] فالمَعْنَى بلْ مَنْ هذا الحقيرُ الذي هُو في زعمِكُم جندٌ لكم ينصرُكُم متجاوزاً نصرَ الرحمنِ أو ينصرُكُم نصراً كائناً من دونِ نصرِهِ تعالَى أو ينصرُكُم من عذابٍ كائنٍ من عندِ الله عزَّ وجلَّ. وتوهمُ أنَّ أمَّ معادلةٌ لقولِهِ تعالَى: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } الخ معَ القولِ بأنَّ مَنِ استفهاميةٌ مما لا تقريبَ له أصلاً. وقولُه تعالَى: { إِنِ ٱلْكَـٰفِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ } اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ ناعِ عليهِم ما هُم فيهِ من غايةِ الضلالِ أي ما هُم في زعمِهِم أنَّهم محفوظونَ من النوائبِ بحفظِ آلهتِهِم لا بحفظِهِ تعالَى فقطْ أو أنَّ آلهتَهُم تحفظهُم من بأسِ الله إلا في غرورٍ عظيمٍ وضلالٍ فاحشٍ من جهةِ الشيطانِ ليسَ لهُم في ذلكَ شيءٌ يعتدُّ بهِ في الجملةِ. والالتفاتُ إلى الغيبةِ للإيذانِ باقتضاءِ حالِهِم للإعراضِ عنهُم وبـيانِ قبائِحِهِم لغيرِهِم. والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لذمِّهِم بالكُفرِ وتعليلِ غرورِهِم بهِ. والكلامُ في قوله تعالَى:

{ أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ } أي الله عزَّ وجلَّ { رِزْقَهُ } بإمساكِ المطرِ وسائرِ مباديهِ كالذي مرَّ تفصيلُه خَلا أنَّ قولَه تعالَى: { بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ } منبىءٌ عن مقدَّرٍ يستدعيهِ المقامُ كأنَّه قيلَ إثرَ تمامِ التبكيتِ والتعجيزِ لم يتأثروا بذلكَ ولم يُذعنُوا للحقِّ بل لجُّوا وتمادَوا في عتوَ، أي عنادٍ واستكبارٍ وطغيانٍ ونفورٍ أيْ شرادٍ عن الحقِّ.