التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
٤
وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ
٥
وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٦
إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ
٧
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
٨
قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ
٩
-الملك

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } أي رجعتينِ أُخرَيـينِ في ارتيادِ الخللِ والمرادُ بالتثنيةِ التكريرُ والتكثيرُ كما في لبَّـيكَ وسَعديكَ أي رجعةً بعدَ رجعةٍ وإنْ كثُرتْ. { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا } أي بعيداً محروماً من إصابةِ ما التمسَهُ من العيبِ والخللِ كأنَّه يُطردُ عن ذلكَ طرداً بالصَّغارِ والقَماءةِ { وَهُوَ حَسِيرٌ } أي كليلٌ لطولِ المعاودةِ وكثرةِ المُراجعةِ. وقولُه تعالَى:

{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا } بـيانٌ لكونِ خلقِ السمواتِ في غايةِ الحسنِ والبهاءِ إثرَ بـيانِ خُلوِهَا عن شائبةِ القصورِ. وتصديرُ الجملةِ بالقسمِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بمضمونِهَا أي وبالله لقد زيَّنا أقربَ السمواتِ إلى الأرضِ { بِمَصَـٰبِيحَ } أي بكواكبَ مضيئةً بالليلِ إضاءةَ السرجِ من السياراتِ والثوابتِ تتراءى كأن كُلَّها مركوزةٌ فيها مع أنَّ بعضَها في سائرِ السمواتِ وما ذاكَ إلا لأنَّ كلَّ واحدةٍ منها مخلوقةٌ على نمطٍ رائقٍ تحارُ في فهمِهِ الأفكارُ وطرازٍ فائقٍ تهيمُ في دركِهِ الأنظارُ { وَجَعَلْنَـٰهَا رُجُوماً لّلشَّيَـٰطِينِ } وجعلنَا لها فائدةً أُخرى هي رجمُ أعدائِكُم بانقضاضِ الشهبِ المقتبسةِ من نارِ الكواكبِ، وقيلَ معناهُ وجعلنَاهَا ظنوناً ورجوماً بالغيبِ لشياطينِ الإنسِ وهم المنجمونَ، ولا يساعدهُ المقامُ والرجومُ جمع رَجْمٍ بالفتحِ وهو ما يُرجمُ بهِ { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } في الآخرةِ { عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } بعد الاحتراقِ في الدُّنيا بالشهبِ { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } منَ الشياطينِ وغيرِهِم { عَذَابَ جَهَنَّمَ } وقُرىءَ بالنصبِ على أنَّه عطفٌ على عذابِ السعيرِ وللذينَ على لهم { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي جهنمُ { إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا } أي لجهنَم وهو متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من قولِهِ تعالَى: { شَهِيقًا } لأنه في الأصلِ صفتُه فلما قُدمتْ صارتْ حالاً أي سمعُوا كائناً لَها شهيقاً أي صوتاً كصوتِ الحميرِ وهو حسيسُها المنكرُ الفظيعُ قالوا الشهيقُ في الصدرِ والزفيرُ في الحلقِ { وَهِىَ تَفُورُ } أي والحالُ أنها تغلِي بهم غليانَ المِرْجِلِ بما فيهِ، وجعلُ الشهيقِ لأهلِهَا منهُم وممن طُرحَ فيها قبلَهُم كما في قولِهِ تعالَى: { { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [سورة هود، الآية 106] يرده قوله تعالَى: { تَكَادُ تَمَيَّزُ } أي تتميزُ وتتفرقُ { مِنَ ٱلْغَيْظِ } أي منْ شدةِ الغضبِ عليهِم فإنَّه صريحٌ في أنَّهُ من آثارِ الغضبِ عليهِم كما في قولِهِ تعالَى: { { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [سورة الفرقان، الآية 12] فأينَ هُو من شهيقِهِم الناشىءِ من شدةِ ما يقاسونَهُ من العذابِ الأليمِ، والجملةُ إما حالٌ من فاعلِ تفورُ أو خبرٌ آخرُ. وقولُه تعالَى: { كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ } استئنافٌ مسوقٌ لبـيانِ حالِ أهلِها بعد بـيانِ حالِ نفسِها وقيلَ حالٌ من ضميرِها أي كلما أُلقَى فيها جماعةٌ من الكفرةِ.

{ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا } بطريقِ التوبـيخِ والتقريعِ ليزدادُوا عذاباً فوقَ عذابٍ وحسرةً على حسرةٍ { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } يتلُو عليكُم آياتِ ربِّكُم وينذركُم لقاءَ يومِكُم هذا كما وقعَ في سورةِ الزمرِ ويعربُ عنه جوابهُم أيضاً { قَالُواْ } اعترافاً بأنه تعالَى قد أزاحَ عللَهُم بالكليةِ { بَلَىٰ قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ } جامعينَ بـينَ حرفِ الجوابِ ونفسِ الجملةِ المجابِ بها مبالغةً في الاعترافِ بمجىءِ النذيرِ وتحسراً على ما فاتَهُم من السعادةِ في تصديقِهِم وتمهيداً لبـيانِ ما وقعَ منهُم من التفريطِ تندماً واغتماماً على ذلكَ أيْ قالَ كلُّ فوجٍ من تلكَ الأفواجِ قد جاءَنا نذيرٌ أي واحدٌ حقيقةً أو حكماً كأنبـياءِ بني إسرائيلَ فإنهم في حكمِ نذيرٍ واحدٍ فأنذرنا وتَلا علينا ما نزَّل الله تعالَى من آياتِهِ.

{ فَكَذَّبْنَا } ذلكَ النذيرَ في كونِهِ نذيراً من جهتِهِ تعالَى: { وَقُلْنَا } في حقِّ ما تلاهُ من الآياتِ إفراطاً في التكذيبِ وتمادياً في النكيرِ { مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ } على أحدٍ { مِن شَىْء } من الأشياءِ فضلاً عن تنزيلِ الآياتِ عليكُم { إِنْ أَنتُمْ } أي ما أنتُم في ادعاء أنَّه تعالَى نزَّل عليكُم آياتٍ تُنذرونَنا بِمَا فيها { إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ كَبِيرٍ } بعيدٍ عن الحقِّ والصوابِ. وجمعُ ضميرِ الخطابِ مع أنَّ مخاطِبَ كلِّ فوجٍ نذيرُهُ لتغليبِهِ على أمثاله مبالغةً في التكذيبِ وتمادياً في التضليلِ كما ينبىءُ عنهُ تعميمُ المُنزِّلِ مع تركِ ذكرِ المُنزَّلِ عليهِ فإنَّه مُلوِّحٌ بعمومِهِ حتماً وأما إقامةُ تكذيبِ الواحدِ مُقامَ تكذيبِ الكلِّ فأمرٌ تحقيقيٌّ يصارُ إليهِ لتهويلِ ما ارتكبُوا من الجناياتِ لا مساغَ لاعتبارِهِ من جهتِهِم ولا لإدراجِهِ تحت عبارَتِهِم، كيفَ لا وهو منوطٌ بملاحظةِ إجماعِ النذرِ على ما لا يختلفُ من الشرائعِ والأحكامِ باختلافِ العصورِ والأعوامِ وأين هُم من ذلك وقد حال الجريضُ دونَ القريضِ. هَذا إذا جَعلَ ما ذُكِرَ حكايةً عن كلِّ واحدٍ من الأفواجِ، وأما إذا جُعلَ حكايةً عن الكلِّ فالنذيرُ إمَّا بمَعْنَى الجمعِ لأنَّه فعيلٌ أو مصدرٌ مقدرٌ بمضافٍ عامَ أي أهلُ نذيرٍ أو منعوتٌ بهِ فيتفقُ كلا طَرَفَي الخطابِ في الجمعيةِ، ومن اعتبرَ الجمعيةَ بأحدِ الوجوهِ الثلاثةِ على التقديرِ الأولِ ولم يخصَّ اعتبارَهَا بالتقديرِ الأخيرِ فقد اشتَبَه عليهِ الشؤونُ واختلطَ بهِ الظنونُ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ الخطابُ من كلامِ الخزنةِ للكفارِ على إرادةِ القولِ على أنَّ مرادَهُم بالضَّلالِ ما كانُوا عليهِ في الدُّنيا أو هلاكهُم أو عقابُ ضلالِهِم تسميةً لهُ باسمِ سببِهِ وأن يكونَ من كلامِ الرسلِ للكفرةِ وقد حكَوه للخزنةِ فتأملْ وكُنْ على الحقِّ المبـينِ.