التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ
٣
وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ
٤
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ
٥
بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ
٦
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
٧
فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ
٨
وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
٩
-القلم

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَإِنَّ لَكَ } بمقابلةِ مقاساتِكَ ألوانَ الشدائدِ منْ جهتِهِم وتحملِك لأعباءِ الرسالةِ { لأَجْرًا } لثواباً عظيماً لا يُقادَرُ قَدرُهُ { غَيْرُ مَمْنُونٍ } معَ عظمِهِ كقولِهِ تعالَى: { { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [سورة هود، الآية 108] أوغيرَ ممنونٍ عليكَ من جهةِ الناسِ فإنَّهُ عطاؤُه تعالى بلاَ توسطٍ { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } لا يُدرِكُ شأوَهُ أحدٌ منَ الخلقِ، ولذلكَ تحتملُ من جهتِهِم ما لا يكادُ يحتملُهُ البشرُ. وسُئلتْ عائشةُ رضيَ الله عنْهَا عن خُلُقِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فقالتْ: « كان خُلُقه القُرآنَ » ألستَ تقرأُ القُرآنَ. { { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [سورة المؤمنون، الآية 1] والجملتانِ معطوفتانِ على جوابِ القسمِ { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } قالَ ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا فستعلمُ ويعلمونَ يومَ القيامةِ حينَ يتبـينَ الحقُّ من الباطلِ، وقيل فستبصرُ ويبصرونَ في الدُّنيا بظهورِ عاقبةِ أمرِكُم بغلبةِ الإسلامِ واستيلائِكَ عليهِم بالقتلِ والنهبِ وصيرورتِكَ مهيباً مُعظماً في قلوبِ العالمينَ وكونِهِم أذلةً صاغرينَ. قالَ مقاتلٌ: هَذا وعيدٌ بعذابِ يومِ بدرٍ { بِأَيّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } أي أيكم الذي فُتنَ بالجنونِ، والباءُ مزيدةٌ أو بأيكم الجنونُ على أنَّ المفتونَ مصدرٌ كالمعقولِ والمجلودِ أو بأيِّ الفريقينِ منكُم المجنونُ أبفريقِ المؤمنينَ أم بفريقِ الكافرينَ أي في أيِّهما يوجدُ من يستحقُّ هَذا الاسمَ وهو تعريضٌ بأبـي جهلِ بنِ هشامٍ والوليدِ بنِ المغيرةَ وأضرابِهِمَا، كقولِهِ تعالَى: { { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلأَشِرُ } [سورة القمر، الآية 26] وقولُه تعالَى: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } تعليلٌ لما ينبىءُ عنهُ ما قبلَهُ من ظهورِ جنونِهِم بحيثُ لا يَخْفى على أحدٍ، وتأكيدٌ لما فيهِ من الوعدِ والوعيدِ أي هُو أعلمُ بمن ضلَّ عن سبـيلِهِ تعالَى المؤدِّي إلى سعادةِ الدارينِ وهامَ في تيهِ الضلالِ متوجهاً إلى ما يفضيهِ إلى الشقاوةِ الأبديةِ وهذا هُو المجنونُ الذي لا يفرقُ بـين النفعِ والضررِ بل يحسبُ الضررَ نفعاً فيؤثرهُ والنفعَ ضرراً فيهجُرهُ { وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } إلى سبـيلِهِ الفائزينَ بكلِّ مطلوبٍ الناجينَ عن كلِّ محذورٍ، وهُم العقلاءُ المراجيحُ فيجزِي كلاً من الفريقينِ حسبَما يستحقُّهُ من العقابِ والثوابِ وإعادةُ هو أعلمُ لزيادةِ التقريرِ، والفاءُ في قولِهِ تعالَى: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذّبِينَ } لترتيبِ النَّهيِ على ما ينبىءُ عنهُ ما قبلَهُ من اهتدائِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وضلالِهِم أو على جميعِ ما فُصِّلَ من أوَّلِ السورةِ، وهذا تهيـيجٌ وإلهابٌ للتصميمِ على معاصاتِهِم أيْ دُمْ على ما أنتَ عليهِ من عدمِ طاعتِهِم وتصلَّبْ في ذَلك، أو نهيٌ عن مداهنَتِهِم ومداراتِهِم بإظهارِ خلافِ ما في ضميرِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ استجلاباً لقلوبِهِم لا عن طاعتِهِم حقيقةً كما ينبىءُ عنْهُ قولُه تعالَى: { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ } فإنَّه تعليلٌ للنَّهيِ أو للانتهاءِ وإنما عبَّر عنها بالطاعةِ للمبالغةِ في الزجرِ والتنفيرِ أيْ أَحبُوا لو تلاينُهُم وتسامحُهُم في بعضِ الأمورِ { فَيُدْهِنُونَ } أي فهُم يُدهِنُونَ حينئذٍ أو فهُم الآنَ يُدْهِنُونَ طمعاً في إدهانِكَ، وقيلَ هو معطوفٌ على تُدهنُ داخلٌ في حيزِ لَوْ والمَعْنَى ودُّوا لو يُدهنُونَ عقيبَ إدهانِكَ، ويأباهُ ما سيأتِي من بدئِهِم بالإدهانِ على أن إدهانَهُم أمرٌ محققٌ لا يناسبُ إدخالَهُ تحت التمنِّي، وأيَّاً ما كانَ فالمعتبرُ في جانبِهِم حقيقةُ الإدهانِ الذي هُو إظهارُ الملاينةِ وإضمارُ خلافِهَا، وأمَّا في جانبِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فالمعتبرُ بالنسبةِ إلى ودادتِهِم هو إظهارُ الملاينةِ فَقَطْ وأمَّا إضمارُ خلافِهَا فليسَ في حيزِ الاعتبارِ بلْ هُم في غايةِ الكراهةِ لهُ إنما اعتبارُهُ بالنسبةِ إليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وفي بعضِ المصاحفِ فيُدهنُوا على أنَّه جواب التمني المفهوم من ودُّوا أو أن ما بعده حكاية لودادتهم، وقيل على أنه عطفٌ على تُدهنُ بناءً على أنَّ لَوْ بمنزلةِ إنِ الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينسَبكُ منهَا وممَّا بعدَهَا مصدرٌ يقعُ مفعولاً لودُّوا كأنَّه قيلَ ودُّوا أنْ تُدهنَ فيدهنوا وقيلَ لَوْ على حقيقتِهَا وجوابُهَا وكذا مفعولُ ودُّوا أي ودُّوا إدهانَكَ لو تُدهنُ فيُدهنُوا لسرُّوا بذلكَ.