التفاسير

< >
عرض

وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧١
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ
١٧٢
-الأعراف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } أي قلعناه من مكانه ورفعناه عليهم { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } أي سقيفةٌ وهي كلُّ ما أظلك { وَظَنُّواْ } أي تيقنوا { أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } ساقطٌ عليهم لأن الجبلَ لا يثبُت في الجو لأنهم كانوا يُوعَدون به، وإطلاقُ الظنِّ في الحكاية لعدم وقوعِ متعلَّقِه وذلك أنهم أبَوْا أن يقبلوا أحكامَ التوراة لثقلها فرفع الله تعالى عليهم الطورَ وقيل لهم: إن قبِلتم ما فيها وإلا ليقعَنَّ عليكم { خُذُواْ مَا ءاتَيْنَـٰكُم } أي وقلنا أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من الكتاب { بِقُوَّةٍ } بجد وعزيمة على تحمل مشاقِّه وهو حالٌ من الواو { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } بالعمل ولا تتركوه كالمنسيِّ { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } بذلك قبائحَ الأعمالِ ورذائلَ الأخلاق أو راجين أن تنتظموا في سلك المتقين.

{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } منصوبٌ بمضمر معطوفٌ على ما انتصب به إذ نتقنا مَسوقٌ للاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاقِ العام المنتظمِ للناس قاطبةً وتوبـيخِهم بنقضه إثرَ الاحتجاج عليهم بتذكير ميثاقِ الطورِ، وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مر بـيانُه مراراً أي واذكر لهم (وقتَ) أخذ ربُّك { مِن بَنِى ءادَمَ } المرادُ بهم الذين وَلدَهم كائناً من كان نسلاً بعد نسلٍ سوى مَنْ لم يولدْ له بسبب من الأسباب كالعُقم وعدمِ التزوج والموتِ صغيراً، وإيثارُ الأخذ على الإخراج للإيذان بالاعتناء بشأن المأخوذِ لما فيه من الإنباء عن الاجتباء والاصطفاءِ وهو السببُ في إسناده إلى اسم الربِّ بطريق الالتفاتِ مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي، وإضافتُه إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف وقوله تعالى: { مِن ظُهُورِهِمْ } بدلٌ من بني آدمَ بدلَ البعضِ بتكرير الجار كما في قوله تعالى: { لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } [الأعراف: 75] و(من) في الموضعين ابتدائيةٌ وفيه مزيدُ تقريرٍ لابتنائه على البـيان بعد الإبهامِ، والتفصيلُ غِبَّ الإجمالِ تنبـيهٌ على أن الميثاقَ قد أُخذ منهم وهم في أصلاب الآباءِ ولم يُستودَعوا في أرحام الأمهات، وقوله تعالى: { ذُرّيَّتُهُم } مفعولُ أخذَ أُخِّر عن المفعول بواسطة الجارِّ لاشتماله على ضمير راجعٍ إليه، ولمراعاة أصالتِه ومنشئيّتِه، ولما مرّ مراراً من التشويق إلى المؤخّر، وقرىء ذرّياتِهم والمرادُ بهم أولادُهم على العموم فيندرج فيهم اليهودُ المعاصِرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم اندراجاً أولياً كما اندرج أسلافُهم في بني آدم كذلك، وتخصيصُهما باليهود سلفاً وخلفاً مع أن ما أريد بـيانُه من بديع صنعِ الله تعالى عز وجل شاملٌ للكل كافة مُخِلٌّ بفخامة التنزيلِ وجزالةِ التمثيل { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } أي أشهد كل واحدةٍ من أولئك الذرياتِ المأخوذين من ظهور آبائهم على نفسها لا على غيرها تقريراً لهم بربوبـيته التامةِ وما تستتبعه من المعبودية على الاختصاص وغيرِ ذلك من أحكامها وقوله تعالى: { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ } على إرادة القولِ، أي قائلاً: ألست بربكم ومالكَ أمرِكم ومربـيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخلٌ في شأن من شؤونكم؟ فينتظم استحقاقُ المعبودية ويستلزم اختصاصَه به تعالى.

{ قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: فماذا قالوا حينئذ؟ فقيل: قالوا: { بَلَىٰ شَهِدْنَا } أي على أنفسنا بأنك ربُّناوإلٰهُنا لا ربَّ لنا غيرُك كما ورد في الحديث الشريف وهذا تمثيلٌ لخلقه تعالى إياهم جميعاً في (مبدأ) الفطرةِ مستعدين للاستدلال بالدلائل المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ المؤدية إلى التوحيد والإسلامِ كما ينطِق به قوله عليه الصلاة والسلام: "كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة" الحديث، مبنيٌّ على تشبـيه الهيئةِ المنتزَعَةِ من تعريضه تعالى إياهم لمعرفة ربوبـيتِه بعد تمكينِهم منها بما رَكَّز فيهم من العقول والبصائر ونصبَ لهم في الآفاق والأنفسِ من الدلائل تمكيناً تاماً، ومن تمكّنهم تمكناً كاملاً وتعرّضِهم لها تعرضاً قوياً بهيئة منتزعةٍ من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمرِ ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلاً من غير أن يكون هناك أخذٌ وإشهادٌ وسؤالٌ وجواب كما في قوله تعالى: { { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت: 11].

وقوله تعالى: { أَن تَقُولُواْ } بالتاء على تلوين الخطاب وصرفِه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديداً في الإلزام، أو إليهم وإلى متقدّميهم بطريق التغليبِ لكن لا من حيث إنهم مخاطَبون بقوله تعالى: { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ } فإنه ليس من الكلام المحكي، وقرىء بالياء على أن الضمير للذرية، وأياً ما كان فهو مفعولٌ له لما قبله من الأخذ والإشهاد أي فعلنا ما فعلنا كراهةَ أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرةُ أو يقولوا هم { يَوْمُ ٱلْقِيَـٰمَةِ } عند ظهور الأمرِ { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا } عن وحدانية الربوبـيةِ وأحكامِها { غَـٰفِلِينَ } لم ننبِّه عليه، فإنهم حيث جُبلوا على ما ذكر من التهيؤ التامِّ لتحقيق الحقِّ والقوة القريبةِ من الفعل صاروا محجوبـين عاجزين عن الاعتذار بذلك إذ لا سبـيل لأحد إلى إنكار ما ذُكر من خلقهم على الفطرة السليمةِ.