التفاسير

< >
عرض

مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً
٢٥
وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً
٢٦
إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً
٢٧
رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً
٢٨
-نوح

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ مّمَّا خَطِيئَـٰتِهِمْ } أي من أجلِ خطيئاتِهِم، ومَا مزيدةٌ بـينَ الجارِّ والمجرورِ للتوكيدِ والتفخيمِ، ومَنْ لم يَرَ زيادَتَهَا جعلَهَا نكرةً وجعلَ خطيئاتِهِم بدلاً منهَا. وقُرِىءَ مِمَّا خَطَاياهُم، ومِمَّا خطياتِهِم أي بسببِ خطيئاتِهِم المعدودةِ وغيرِهَا من خطاياهُم { أُغْرِقُواْ } بالطوفانِ لا بسببٍ آخرَ { فَأُدْخِلُواْ نَاراً } المرادُ إمَّا عذابُ القبرِ فهو عَقيبَ الإغراقِ، وإنْ كانُوا في الماءِ. عنِ الضحَّاكِ أنَّهُم كانُوا يُغرقونَ من جانبٍ ويُحرقُونَ من جانبٍ أو عذابُ جهنَم والتعقيبُ لتنزيلِهِ منزلةَ المتعقبِ لإغراقِهِم لاقترابِهِ وتحقِقِه لا محالةَ وتنكيرُ النَّارِ إمَّا لتعظيمِهَا وتهويلِهَا، أو لأنَّهُ تعالَى أعدَّ لهُم على حسبِ خطيئاتِهِم نوعاً من النَّارِ. { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } أي لم يجدْ أحدٌ منهُم واحداً منَ الأنصارِ، وفيه تعريضٌ باتِّخاذِهِم آلهةً من دونِ الله تعالَى وبأنَّها غيرُ قادرةٍ على نَصرِهِم، وتهكمٌ بهِمْ. { وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ دَيَّاراً } عطفٌ على نظيرِهِ السابقِ. وقولُهُ تعالَى: { مّمَّا خَطِيئَـٰتِهِمْ } الخ. اعتراضٌ وسطٌ بـين دعائِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ من أولِ الأمرِ، بأنَّ ما أصابَهُم من الإغراقِ والإحراقِ لم يُصبهُم إلا لأجلِ خطيئاتِهِم التي عدَدَهَا نوحٌ عليهِ السَّلامُ وأشارَ إلى استحقاقِهِم للإهلاكِ لأجلِها لا أنَّها حكايةٌ لنفسِ الإغراقِ والإحراقِ على طريقةِ حكايةِ ما جَرَى بـينَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبـينُهُم من الأحوالِ والأقوالِ وإلا لأُخِّر عن حكايةِ دُعَائِهِ هَذا. وديَّاراً من الأسماءِ المستعملةِ في النَّفيِ العامِّ يقالُ ما بالدارِ ديَّارٌ أو ديُّورٌ كقيَّامِ وقَيُّومِ، أيْ أحدٌ وهو فَيعالٌ من الدُّورِ أو من الدَّارِ أصلُهُ دَيْوَارٌ قدْ فُعِلَ بهِ ما فُعِلَ بأصلِ سيِّدٍ، لا فَعَّالٌ وإلا لكانَ دَوَّاراً.

{ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ } عليها كلاً أو بعضاً { يُضِلُّواْ عِبَادَكَ } عن طريقِ الحقِّ { وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } أي إلا من سيفجُر ويكفرُ فوصفَهم بما يصيرونَ إليهِ وكأنَّه اعتذارٌ ممًّا عَسَى يردُ عليه مِنْ أنَّ الدعاءَ بالاستئصال معَ احتمال أنْ يكونَ من أخلافِهم مَنْ يؤمنَ منكَرٌ وإنَّما قالَهُ لاستحكام علمِه بما يكونُ منهم ومن أعقابِهم بعدما جرَّبُهم واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنةٍ { رَّبّ ٱغْفِرْ لِى وَلِوٰلِدَىَّ } أبُوه لمَك بنُ مَتُّوشَلِحَ وأمُّه سمحاء بنتُ إنُوشَ كانَا مؤمنينِ، وقيل: هما آدمُ وحواءُ وقُرىءَ ولولديَّ يريدُ ساماً وحاماً { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ } أي مَنزلِي وقيلَ: مسجدِي وقيل: سَفينتي { مُؤْمِناً } بهذا القيدِ خرجتْ امرأتُه وابنُه كنعانُ ولكنْ لم يجزمْ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بخروجِه إلا بعدَ ما قيلَ له: إنَّه ليسَ من أهلِك وقد مرَّ تفصيلُه في سورةِ هودٍ، الآية 36 { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } عمَّهم بالدُّعاءَ إثرَ ما خصَّ بهِ مَنْ يتصلُ به نسباً وديناً { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّـٰلِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً } أي هلاكاً قيلَ: غرقَ معُهم صبـيانُهم أيضاً لكنْ لا على وجهِ العقابِ لهم بلُ لتشديد عذابِ آبائِهم وأمَّهاتِهم بإراءةِ هلاكِ أطفالِهم الذينَ كانُوا أعزَّ عليِهم من أنفسهِم. قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "يهلكونَ مهلكاً واحداً ويصدرونَ مصادرَ شَتَّى" وعنِ الحسنِ أنَّه سُئلَ عنْ ذلِكَ فقالَ علَم الله براءتَهُم فأهلكَهُم بغيرِ عذابٍ، وقيلَ: أعقمَ الله تعالَى أرحامَ نسائِهم وأيبسَ أصلابَ آبائِهم قبلَ الطُّوفانِ بأربعينَ أو سبعينَ سنةً فلم يكُنْ معهُم صبـيٌّ حينَ غَرِقُوا.

عن النبـيِّ صلى الله عليه وسلم: " "مَنْ قرأَ سورةَ نوحٍ كانَ من المؤمنينَ الذينَ تُدركهم دعوةُ نوحٍ عليهِ السَّلامُ" .