التفاسير

< >
عرض

وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ
١٥
قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً
١٦
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً
١٧
عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً
١٨
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً
١٩
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً
٢٠
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً
٢١
-الإنسان

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِـئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ } الكوبُ الكوزُ العظيمُ الذي لا أُذنَ له ولاَ عُروةَ { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ } أي تكونتْ جامعةً بـين صفاءِ الزجاجةِ وشفيفِها ولينِ الفِضَّةِ وبـياضِها، والجملةُ صفةٌ لأكواب. وقُرِىءَ بتنوينِ قواريرَ الثانِي أيضاً، وقُرئَا بغيرِ تنوينٍ، وقُرِىءَ الثَّانِي بالرَّفعِ على هيَ قواريرُ { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } صفةٌ لقواريرَ ومعنى تقديرِهم لها أنَّهم قدَّروها في أنفسِهم وأرادُوا أنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ معينةٍ موافقةً لشهواتهم فجاءتْ حسبمَا قدَّرُوها، أو قدَّرُوها بأعمالِهم الصالحةِ فجاءتْ على حسبِها، وقيلَ: الضميرُ للطائفينَ بهَا المدلولِ عليهم بقولِه تعالى: { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ } الإنسان، الآية 15] فالمعنى قدَّروا شرابَها على قدرِ اشتهائِهم، وقُرِىءَ قُدِّرُوها على البناءِ للمفعولِ أي جُعلوا قادرينَ لها كما شاءوا من قَدَر منقولاً من قَدَّرتُ الشيءَ.

{ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } أي ما يشبِهُ الزنجبـيلَ في الطعمِ وكان الشرابُ الممزوجُ به أطيبَ ما تستطيبُه العربُ وألذَّ ما تستلذُّ به { عَيْناً } بدلٌ من زنجبـيلاً، وقيلَ: تمزجُ كأسُهم بالزنجبـيلِ بعينِه، أو يخلقُ الله تعالى طعمَهُ فيها، فعيناً حينئذٍ بدلٌ من كأساً كأنَّه قيلَ: ويُسقَون فيها كأساً كأسَ عينٍ، أو نصبٌ على الاختصاص { فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً } لسلاسة انحدارِها في الحَلْقِ وسهولةِ مساغِها، يقالُ: شرابٌ سلسلٌ وسلسالٌ وسلسبـيلٌ، ولذلكَ حُكمَ بزيادةِ الباءِ، والمرادُ بـيانُ أنَّها في طعم الزنجبـيلِ، وليسَ فيها لذعةٌ بل نقيضُ اللذعِ هو السلاسةُ { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدٰنٌ مُّخَلَّدُونَ } أي دائمونَ على ما هُم عليه من الطراوةِ والبهاءِ { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } لحُسنِهم وصفاءِ ألوانِهم وإشراقِ وجوهِهم وانبثاثِهم في مجالسهم ومنازلِهم وانعكاسِ أشعةِ بعضِهم إلى بعضٍ { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } ليسَ له مفعولٌ ملفوظٌ ولا مقدرٌ ولا منويٌّ، بل معناهُ أنَّ بصرَكَ أينمَا وقعَ في الجنةِ { رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } أي هنيئاً واسعاً. وفي الحديثِ "أدنَى أهلِ الجنةِ منزلةً ينظُر في مُلكِه مسيرةَ ألفِ عامٍ يَرى أقصاهُ كمِا يَرى أدناهُ" وقيلَ: لا زوالَ لَه، وقيلَ: إذَا أرادُوا شيئاً كانَ، وقيلَ: يُسلمُ عليهم الملائكةُ ويستأذنونَ عليهم { عَـٰلِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ } قيلَ: عاليَهُم ظرفٌ على أنَّه خبرٌ مقدمٌ وثيابُ مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملةُ صفةٌ أُخرى لولدانٌ كأنَّه قيلَ: يطوفُ عليهم ولدانٌ فوقَهُم ثيابُ الخ، وقيلَ: حالٌ من ضميرِ عليهم أو حسِبتَهم، أي يطوفُ عليهم ولدانٌ عالياً للمطوف عليهم ثيابٌ الخ، أو حسبتَهُم لؤلؤاً منثوراً عالياً لهم ثيابُ الخ. وقُرِىءَ عاليهم بالرفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُهُ ثيابُ أي ما يعلُوه من لباسِهم ثيابُ سندسٍ. وقُرِىءَ خضرٍ بالجرِّ حملاً على سندسٍ بالمَعْنى لكونِه اسمَ جنسٍ { وَإِسْتَبْرَقٍ } بالرفعِ عطفاً على ثيابُ. وقُرِىءَ برفعِ الأولِ وجرِّ الثانِي، وقُرىءَ بالعكسِ، وقُرِىءَ بجرِّهِما، وقُرىءَ واستبرقَ بوصلِ الهمزةِ والفتحِ على أنه استفعلَ من البريقِ جُعل عَلَماً لهذا النوعِ من الثيابِ.

{ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } عطفٌ على يطوفُ عليهم ولا ينافيهِ قولُه تعالى: { { أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } [سورة الكهف، الآية 31 وسورة الحج، الآية 23 وسورة فاطر، الآية 33] لإمكانِ الجمعِ والمعاقبةِ والتبعيضِ، فإنَّ حُلِيَّ أهلِ الجنةِ يختلفُ حسبَ اختلافِ أعمالِهم فلعلَّه تعالَى يفيضُ عليهم جزاءً لما عملُوه بأيديهم حلياً وأنواراً تتفاوتُ تفاوتَ الذهبِ والفضةِ أو حالٌ من ضميرِ عاليَهم بإضمارِ قَدْ، وعلى هذا يجوزُ أن يكونَ هذا للخدمِ وذاكَ للمخدومينَ.

{ وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } هو نوعٌ آخرُ يفوقُ النوعينِ السالفينِ كما يرشدُ إليهِ إسنادُ سقيهِ إلى ربِّ العالمينَ ووصفُه بالطَّهوريةِ فإنَّه يطهرُ شاربَهُ عن دَنَسِ الميلِ إلى الملاذِّ الحسيةِ والركونِ إلى ما سِوى الحقِّ فيتجردُ لمطالعةِ جمالِه ملتذاً بلقائِه باقياً ببقائِه، وهي الغايةُ القاصيةُ من منازلِ الصدِّيقينَ ولذلكَ خُتمَ بها مقالةُ ثوابِ الأبرارِ.