مكية وآيُها إحدى وثلاثون
{ هَلْ أَتَىٰ } استفهامُ تقريرٍ وتقريبٍ فإنَّ هَلْ بمَعْنى قَدْ والأصلُ أَهَلْ أَتَى { عَلَى ٱلإنْسَـٰنِ } قبلَ زمانٍ قريبٍ { حِينٌ مّنَ ٱلدَّهْرِ } أي طائفةٌ محدودةٌ كائنةٌ من الزمنِ الممتدِّ { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } بلْ كانَ شيئاً منسياً غيرَ مذكورٍ بالإنسانية أصلاً كالعنصرِ والنطفةِ وغيرَ ذلكَ. والجملةُ المنفيةُ حالٌ من الإنسان أي غيرَ مذكورٍ أو صفةٌ أُخرى لحينٌ على حذف العائدِ إلى الموصوف أي لمْ يكُن فيه شيئاً مذكُوراً. والمرادُ بالإنسان الجنسُ فالإظهارُ في قوله تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ } لزيادة التقريرِ، أو آدمُ عليه السَّلامُ، وهو المرويُّ عن ابن عباسٍ وقتادة والثوريِّ وعكرمةَ والشعبـيِّ. قالَ ابنُ عباسٍ في روايةِ أبـي صالحٍ عنْهُ: مرتْ به أربعونَ سنةً قبلَ أنْ يُنفخَ فيه الروح وهو مُلقى بـين مكةَ والطائفِ وفي روايةِ الضحاكِ عنه أنَّه خُلقَ من طينٍ فأقامَ أربعينَ سنةً ثمَّ من حمإٍ فأقامَ أربعينَ سنةً ثمَّ من صلصالٍ فأقامَ أربعينَ سنةً فتمَّ خلقُه بعدَ مائةٍ وعشرينَ سنةً ثمَّ نُفخَ فيهِ الرُّوحُ، وحكَى الماوَرْدِيُّ عن ابن عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا أنَّ الحينَ المذكورَ هٰهنَا هو الزمنُ الطويلُ الممتدُّ الذي لا يُعرفُ مقدارُه فيكونُ الأولُ إشارةً إلى خلقه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهذا بـياناً لخلقِ بنيهِ { أَمْشَاجٍ } أخلاطٌ، جمعُ مشجٍ أو مشيجٍ، منْ مشجتَ الشيءَ إذا خلطتَهُ. وصف النطفةَ بهِ لما أنَّ المرادَ بها مجموعُ الماءينِ، ولكلَ منهُمَا أوصافٌ مختلفةٌ من اللون والرقةِ والغِلَظِ، وخواصُّ متباينةٌ فإنَّ ماءَ الرجلِ أبـيضُ غليظٌ فيه قوَّةُ العقدِ وماءَ المرأةِ أصفرُ رقيقٌ فيهِ قوةُ الانعقادِ يُخلقُ منهُمَا الولدُ فمَا كانَ من عصبٍ وعظمٍ وقوةٍ فَمِنْ ماءِ الرُّجُلِ وما كانَ منْ لحمٍ ودمٍ وشعرٍ فَمِنْ ماءِ المرأةِ. قالَ القرطبـيُّ: وقد رُويَ هذا مرفوعاً، وقيلَ: مفردٌ كأعشارٍ وأكياشٍ، وقيلَ: أمشاجٌ ألوانٌ وأطوارٌ فإنَّ النطفةَ تصيرُ علقةً ثمَّ مضغةً إلى تمام الخِلقةِ. وقولُه تعالَى: { نَّبْتَلِيهِ } حالٌ منْ فاعل خلقنَا أيْ مريدينَ ابتلاءهُ بالتكليف فيما سيأتي ناقلينَ له من حالٍ إلى حال على طريقة الاستعارةِ كما رُويَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا نصرّفه في بطنِ أمه نطفةً ثمَّ علقةً إلى آخرِهِ { فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعاً بَصِيراً } ليتمكنَ من استماعِ الآياتِ التنزيليةِ ومشاهدةِ الآياتِ التكوينيةِ فهو كالمسببِ عن الابتلاءِ فلذلكَ عُطِفَ على الخلقِ المقيدِ به بالفاءِ ورُتِّبَ عليهِ قولُه تعالَى: { إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ } بإنزالِ الآياتِ ونصبِ الدلائل { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } حالانِ من مفعولِ هدينَا أي مكّناهُ وأقدرناهُ على سلوكِ الطريقِ الموصلِ إلى البُغيةِ في حالتيهِ جميعاً، وإمَّا للتفصيلِ أو التقسيمِ، أيْ هديناهُ إلى ما يوصلُ إليها في حاليهِ جميعاً أو مقسوماً إليهما بعضُهم شاكرٌ بالاهتداءِ والأخذِ فيهِ وبعضُهم كفورٌ بالإعراضِ عنْهُ وقيلَ: من السبـيلِ أي عرفناهُ السبـيلَ إما سبـيلاً شاكراً أو كفوراً على وصفِ السبـيلِ بوصفِ سالكِه مجازاً. وقُرِىءَ أَمَّا بالفتحِ على حذفِ الجوابِ، أي أمَّا شاكراً فبتوفيقِنا، وأَمَّا كفوراً فبسوءِ اختيارِه لا بمجردِ إجبارِنا من غيرِ اختيارٍ منْ قِبَلِه، وإيرادُ الكفورِ لمراعاة الفواصلِ والإشعارِ بأنَّ الإنسانَ قلَّما يخلُو من كفرانٍ مَا وإنَّما المؤاخذُ عليه الكفرُ المفرطُ.