التفاسير

< >
عرض

وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
١٢
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً
١٣
وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً
١٤
-النبأ

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } أي سبعَ سمواتٍ قويةِ الخلقِ محكمةِ البناءِ لا يُؤثر فيها مرُّ الدهورِ وكرُّ العصورِ، والتعبـيرُ عن خلقِها بالنباءِ مبنيٌّ على تنزيلِها منزلةَ القبابِ المضروبةِ على الخلقِ، وتقديمُ الظرفِ على المفعولِ ليسَ لمراعاةِ الفواصلِ فقطْ بلْ للتشويقِ إليهِ فإنَّ ما حقَّه التقديمُ إذا أُخرَ تبقى النفسُ مترقبةً له فإذا وردَ عليها تمكّنَ عندَها فضلُ تمكنٍ { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } هذا الجعلُ بمعنى الإنشاءِ والإبداعِ كالخلقِ خَلا أنه مختصٌ بالإنشاءِ التكوينيِّ وفيه مَعنى التقديرِ والتسويةِ وهذا عامٌّ له كَما في الآيةِ الكريمةِ وللتشريعيِّ أيضاً كَما في قولِه تعالى: { { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ } [سورة المائدة، الآية 103] الخ وقولِه تعالى: { { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً } [سورة المائدة، الآية 48] وأياً ما كانَ ففيهِ إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخرَ بأنْ يكونَ فيهِ أولَهُ أو مِنْهُ أو نحوُ ذلكَ ملابسةً مصححةً لأنْ يتوسطَ بـينهُمَا شيء من الظروفِ لغواً كانَ أو مستقراً لكنْ لا على أنْ يكونَ عمدةً في الكلامِ بل قيداً فيهِ، كَما في قولِه تعالى: { { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } [سورة الفرقان، الآية 53]، وقولِه تعالى: { { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } [سورة فصلت، الآية 10] وقولِه تعالى: { { وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [سورة النساء، الآية 75] الآيةَ. فإنَّ كلَّ واحدٍ من هذهِ الظروفِ إمَّا متعلقٌ بنفسِ الجعلِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعولِه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً وأياً ما كانَ فهو قيدٌ في الكلامِ حتَّى إذا اقتضَى الحالُ وقوعَهُ عمدةً فيه يكونُ الجعلُ متعدياً إلى اثنينِ هُو ثانيهما كما في قولِه تعالى: { { يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم } [سورة البقرة، الآية 19] ورُبَّما يشتبهُ الأمرُ فيظنَّ أنَّه عمدةٌ فيهِ، وهو في الحقيقيةِ قيدٌ بأحدِ الوجهينِ كما سلفَ في قولِه تعالى: { { إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [سورة البقرة، الآية 30] والوهَّاجُ الوقَّادُ المتلألىءُ من وهجتِ النارُ إذا أضاءتْ أو البالغُ في الحرارةِ من الوهجِ والمرادُ به الشمسُ والتعبـيرُ عنها بالسراجِ من روادفِ التعبـيرِ عن خلقِ السمواتِ بالبناءِ.

{ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ } هي السحائبُ إذا أَعْصرتْ أي شَارفتْ أنْ تعصُرَها الرياحُ فتمطرَ كما في أحصدَ الزرعُ إذا حانَ له أنْ يُحصدَ ومنه أعصرتِ الجاريةُ إذا دنتْ أنْ تحيضَ، أو الرياحُ التي حانَ لها أن تعصُرَ السحابَ. وقُرِىءَ بالمعصرات ووجهُ ذلكَ أنَّ الإنزالَ حيثُ كانَ من المعصراتِ سواء أريدَ بها السحائبَ أو الرياحَ فقد كانَ بها كما يقالُ أعطاهُ من يدِه وبـيدِه وقد فسرتِ المعصراتُ بالرياحِ ذواتِ الأعاصيرِ ووجههُ أنَّ الرياحَ هي التي تنشىءُ السحابَ وتقدرُ أخلافَه فصلحتْ أنْ تجعلَ مبتدأً للإنزالِ { مَآءً ثَجَّاجاً } أي مُنصبَّاً بكثرةٍ، يقالُ ثجَّ الماءُ أي سالَ بكثرةٍ وثجَّه أيْ أسالَه، ومنه قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "أفضلُ الحَجِّ العَجُّ والثَّجُّ" أي رفعُ الصوتِ بالتلبـيةِ وصبُّ دماءِ الهَدي. وقُرِىءَ ثَجَّاحاً بالحاءِ بعدَ الجيمِ، قالُوا، مثاجحُ الماءِ مصابُّه.