التفاسير

< >
عرض

لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً
١٥
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً
١٦
إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً
١٧
-النبأ

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ لِّنُخْرِجَ بِهِ } بذلك الماءِ { حَبّاً } يقتاتُ كالحنطةِ والشعيرِ ونحوهِما { وَنَبَاتاً } يعتلفُ كالتبنِ والحشيشِ، وتقديمُ الحبِّ مع تأخرهِ عن النباتِ في الإخراجِ لأصالتِه وشرفِه لأنَّ غالبَهُ غذاءُ الإنسانِ { وَجَنَّـٰتٍ } الجنَّةُ في الأصلِ هي المرةُ من مصدرِ جنَّه إذا سترَهُ تطلقُ على النخلِ والشجرِ المتكاثفِ المُظللِ بالتفافِ أغصانِه، قالَ زُهيرٌ بنُ أبـي سُلْمَى:

كأنَّ عيني في غَربـي مقتلةمنَ النَّواضحِ تَسقِي جنَّةً سُحُقاً

وعَلَى الأرضِ ذاتِ الشجرِ، قال الفَرَّاءُ الجنةُ ما فيهِ النخيلُ والفردوسُ ما فيه الكَرْمُ والأولُ هو المرادُ. وقولُه تعالَى: { أَلْفَافاً } أي ملتفةً تداخلَ بعضُها في بعضٍ، قالُوا لا واحدَ له كالأوزاعِ والأخيافِ، وقيلَ: الواحدُ لِفٌّ كَكِنَ وأكنانٍ أو لفيفٌ كشريفٍ وأشرافٍ، وقيلَ: هو جمعُ لف جمع لفَّاءَ، كخضر وخضراءَ وقيلَ: جمعُ ملتفةٍ بحذفِ الزوائدِ. واعلم أنَّ فيما ذكر من أنَّ أفعالَه عزَّ وجلَّ دلالةٌ على صحة البعثِ وحقِّيتِه من وجوه ثلاثةٍ: الأولُ: باعتبار قدرتِه تعالَى فإنَّ مَن قدرَ على إنشاءِ هذهِ الأفعالِ البديعةِ من غيرِ مثالٍ يحتذيهِ ولا قانونٍ ينتحيهِ كانَ على الإعادةِ أقدرَ وأقوى، الثَّانِي: باعتبار علمِه وحكمتِه فإنَّ من أبدعَ هذه المصنوعاتِ على نمطِ رائع مستتبعٍ لغاياتِ جليلةٍ ومنافعَ جميلةٍ عائدةً إلى الخلق يستحيلُ أنْ يفنيَها بالكلية ولا يجعلَ لها عاقبةً باقيةً، والثالثُ: باعتبار نفسِ الفعلِ فإنَّ اليقظةَ بعد النومِ أنموذجٍ للبعث بعد الموتِ يشاهدونَها كلَّ يومٍ وكَذا إخراجُ الحبِّ والنباتِ من الأرض الميتةِ يعاينونَه كلَّ حينٍ كأنَّه قيلَ: ألم نفعلْ هذهِ الأفعالَ الآفاقيةَ والأنفسيةَ الدالةَ بفنون الدلالاتِ على حقية البعثِ الموجبةِ للإيمان به فما لكُم تخوضونَ فيه إنكاراً وتتساءلونَ عنه استهزاءً. وقولُه تعالَى: { إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَـٰتاً } شروعٌ في بـيان سرِّ تأخيرِ ما يتساءلونَ عنه ويستعجلونَ به قائلينَ متَى هذا الوعدُ إنْ كنتُم صادقينَ ونوعُ تفصيلٍ لكيفيةِ وقوعِه وما سيلقونَهُ عند ذلكَ من فنونِ العذابِ حسبما جَرى به الوعيدُ إجمالاً، أي إنَّ يومَ فصلِ الله عزَّ وجلَّ بـينَ الخلائقِ كان في علمِه وتقديرِه ميقاتاً وميعاداً لبعثِ الأولينَ والآخرينَ وما يترتبُ عليهِ من الجزاءِ ثواباً وعقاباً لا يكادُ يتخطاهُ بالتقدمِ والتأخرِ وقيل: حداً توقتُ به الدُّنيا وتنتهي عندَهُ أو حداً للخلائقِ ينتهونَ إليهِ ولا ريبَ في أنَّهما بمعزلٍ من التقريب الذي أشيرَ إليه على أنَّ الدنيا تنتهي عند النفخةِ الأُولى.