التفاسير

< >
عرض

إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى
١٦
ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ
١٧
فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ
١٨
وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ
١٩
فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ
٢٠
فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ
٢١
-النازعات

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وقولُه تعالَى: { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ } ظرفٌ للحديثِ لا للإتيانِ لاختلافِ وَقْتَيهِما { طُوًى } بضمِّ الطاءِ غيرَ منونٍ وقُرِىءَ منوناً وقُرِىءَ بالكسرِ منوناً وغيرَ منونٍ فمن نونَّهُ أوَّلهُ بالمكانِ دونَ البقعةِ، وقيلَ: هُو كَثُنَى مصدرٌ لنَادَى أو المقدسِ أيْ ناداهُ ندائينِ أو المقدسِ مرةً بعدَ أُخْرى.

{ ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ } على إرادةِ القولِ وقيلَ: هو تفسيرٌ للنداءِ أي ناداهُ إذهبْ وقيلَ: هُو على حذفِ أَنِ المفسرةِ ويدلُّ عليه قراءةُ عبدِ اللَّهِ أنِ اذهبْ لأنَّ في النداءِ مَعْنى القولِ { إِنَّهُ طَغَىٰ } تعليلٌ للأمرِ أو لوجوبِ الامتثالِ بهِ { فَقُلْ } بعدَ ما أتيتَهُ { هَل لَّكَ } رغبةٌ وتوجهٌ { إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ } بحذفِ إحْدَى التاءينِ من تتزكَّى أيْ تتطهرُ من دنسِ الكُفرِ والطغيانِ. وقُرِىءَ تزَّكَّى بالتشديدِ { وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبّكَ } وأُرشدكَ إلى معرفتِه عزَّ وجلَّ فتعرِفَهُ { فَتَخْشَىٰ } إذِ الخشيةُ لا تكونُ إلا بعدَ معرفتِه تعالَى، قالَ عزَّ وجلَّ: { { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [سورة فاطر، الآية 28] وجَعلُ الخشيةِ غايةً للهدايةِ لأنَّها مِلاكُ الأمرِ، مَنْ خشَى الله تعالى أتَى منْهُ كلَّ خيرٍ، ومَنْ أَمِنَ اجترأَ على كلِّ شرَ. أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ بأنْ يخاطبَهُ بالاستفهامِ الذي معناهُ العرضُ ليستدعيَهُ بالتلطفِ في القولِ ويستنزلَهُ بالمُداراةِ من عُتوِّهِ وهذا ضربُ تفصيلٍ لقولِه تعالى: { { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [سورة طه، الآية 44]. والفاءُ في قولِه تعالَى: { فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ } فصيحةٌ تُفصحُ عن جملٍ قد طُويتْ تعويلاً على تفصيلِها في السورِ الأُخرى فإنه عليه الصلاةُ والسلامُ ما أراهُ إيَّاها عقيبَ هذا الأمرِ بل بعدَ مَا جَرى بـينَهُ وبـينَ الله تعالَى ما جَرى من الاستدعاءِ والإجابةِ وغيرِهما من المراجعاتِ وبعد ما جَرَى بـينَهُ وبـينَ فرعونٍ ما جَرَى من المحاوراتِ إلى أنْ قالَ: { { إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [سورة الأعراف، الآية 106] والإراءةُ إما بمَعْنى التبصيرِ، أو التعريفِ فإن اللعينَ حينَ أبصرَها عرفَها. وادعاءُ سحريتها إنَّما كانَ إراءةً منهُ وإظهاراً للتجلدِ. ونسبتُهَا إليهِ عليه الصلاةُ والسلامُ بالنظرِ إلى الظاهرِ كما أنَّ نسبتَها إلى نونِ العظمةِ في قولِه تعالى: { { وَلَقَدْ أَرَيْنَـٰهُ ءايَـٰتِنَا } [سورة طه، الآية 56] بالنظرِ إلى الحقيقةِ والمرادُ بالآية الكُبْرى قلبُ العصَا حيةً وهو قولُ ابن عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا فإنَّها كانتِ المقدمةَ والأصلَ، والأُخْرَى كالتبعِ لهَا، أو هُمَا جَميعاً، وهو قَولُ مجاهدٍ فإنَّهما كالآيةِ الواحدةِ وقدْ عبرَ عنهُمَا بصيغةِ الجمعِ حيثُ قالَ: { { ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـئَايَـٰتِى } [سورة طه، الآية 42] باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأُمورِ التي كلٌّ منهَا آيةٌ بـينةٌ لقومٍ يعقلونَ، كما مَرَّ تفصيلُه في سُورةِ طٰه ولا مساغَ لحملها على مجموع معجزاتِه فإن ما عدا هاتين الآيتين من الآيات التسعِ إنما ظهرتْ على يدِه عليه الصلاةُ والسلامُ بعدَ مَا غلبَ السحرةِ على مهلٍ في نحوٍ من عشرينَ سنةً كما مرَّ في سورةِ الأعرافِ ولا ريبَ في أنَّ هذا مطلعُ القصةِ وأمرُ السحرةِ مترقبٌ بعدُ { فَكَذَّبَ } بمُوسَى عليهِ السلامُ وسَمَّى معجزتَهُ سِحْراً { وَعَصَىٰ } الله عزَّ وجلَّ بالتمردِ بعدَ ما علَم صحةَ الأمرِ ووجوبَ الطاعةِ أشدَّ عصيانٍ وأقبحَهُ حيثُ اجترأَ على إنكارِ وجودِ ربِّ العالمينَ رَأْساً وكان اللعينُ وقومُه مأمورينَ بعبادتِه عزَّ وجلَّ وتركِ العظيمةِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ فئتُه الباغيةُ لا بإرسالِ بني إسرائيلَ من الأسرِ والقَسْرِ فقطْ.